‘“معارضة الغريب”.. لـ كمال داود “سؤال الهوية والانتماء”’

28 شباط (فبراير - فيفري)، 2018
9 minutes

بعد سبع عقود من ولادة رائعة ألبير كامو (الغريب)، والشهرة التي حققتها الرواية وفلسفة العبث والوجودية التي دارت في ركابها، وبعد الكثير مما قيل ونشر عنها؛ يعود كمال داوود ليتّهم ويسأل ويحاور في روايته (معارضة الغريب- تحقيق مضاد)، الصادرة عن دار البرزخ، والجديد في معارضته على التوازي، صياغته وأسلوبه في عمل روائي هو الأول له، ليقف أمام ألبير كامو، محتجًا، ومعارضًا، ومفككًا خطابه؛ وهو -وإن استعار حجارته ليبني منزله، وفق تعبيره، كناية عن كتابة روايته بالفرنسية- لا يخفي إعجابه بلغته وحصافة تعابيره وبنيانها المرصوص بدقة وحرفية عالية، لكنه يرفع الستار عما أغفله وتجاهله، ينبش رفات القتيل في رواية غريب كامو، الذي أُبقي بلا اسم ولا ملامح، في طيات كتابه، وظل كائنًا عاطلًا عن الهوية طيلة عقود سبعة.

تمشي الرواية على خطين متوازيين من النسج الحكائي، بين غريبه وغريب كامو، بطله موسى القتيل الذي يتشابه مع اسم مورسو، وإذ يحلل في اسم مورسو بطل كامو، ويحفر في اللغة باحثًا عن معنى اسم مورسو، في احتمالات عدة meurt seul أي يموت وحيدًا؛ أم meurt sot أي مات من الهبل، أم no meurt jamais أي لا يموت أبدًا، وكلها تعابير متشابكة ومتعالقة مع الموت.

جريرة ألبير كامو ليست حادثة القتل وحسب، تلك التي لم تتسبب له حتى بأزمة ضمير، بل أنه لم يتنازل ليعطي القتيل اسمًا أو صفة ما، كناية عن هامشية العربي بالنسبة إليه، وتدني إحساسه بالآخر، بحياته غير المهمة، فهو ليس أكثر من رقم، كأكثر الضحايا مجهولة الاسم التي تتعرض للقتل بصمت وإهمال، نعم إنه صمت القتيل الهائل الصخب.

لم يرَ ألبير كامو -وهو الفرنسي الذي ولد وأقام بالجزائر ردحًا من الزمن- أن بلاده تستعمر وتحتل وتضطهد شعبًا آخر، ومن ذلك رفضه التوقيع على البيان الذي حمله جان بول سارتر، لإدانة الاستعمار الفرنسي الذي اعتبر الجزائر جزءًا من المستعمرات العائدة إليه، والتي عمل على فرنستها، حيث ينتهي الكاتب إلى أن جنسيته الجزائرية، هي الصفة الوحيدة التي يحتفظ بها، وكل التسميات السابقة هي آثار لمستعمرين توافدوا على أرضه، في بلد تتعدد القوميات فيه والانتماءات من عرب وبربر وأمازيغ، ومن هذا الجانب هو لا يعتبر نفسه عربيًا، وإنما جزائريًا فقط، فالعروبة ثقافة نملكها لا تملكنا ولا تنفي غيرها، وضمن هذا المفهوم، نحن محملون بثقافة مراوغة، ما نرفضه لغيرنا نقبله لنفسنا، فأغلبنا يعيش مرارة الخروج من الأندلس، ومن النادر أن يقف أحد وقفة موضوعية ومسائلة للتاريخ، عن مفاهيم الغزو والفتح، ويعيد فتح الأبواب المغلقة، وصياغة الأسئلة الوجدانية لنا وعلينا، عن الذات والآخر في الحروب والصدامات. الموت واحد عند العدو والصديق، فكيف نقبله، وكيف نبرره؟ سؤال برز في العمل بوضوح عندما سميت عملية قتل الفرنسي قبل الاستقلال بيوم، بـ المقاومة، وبعده بيوم كانت حادثة قتل عادية، علمًا أن الدوافع ذاتها! مفارقة تعيد للأذهان، معنى الإنسان المجرد كمطلق إنسان، وحرمة حياته، فدائمًا “هناك آخر في كل القصص والحكايا، في الحب وفي الصداقة أو حتى في القطار”.

يتقصى داود على لسان هارون أخي المغدور في كتاب القاتل، عن تفاصيل أخيه الأخيرة، أنفاسه، نظرته، بقاياه، ملامح وجهه.. أخوه الباقي في قصاصتين، تحملان أثره بوحدة قاسية، أخوه الذي يقض مضجعه بذكرى عاصية على السلوى “أنا لست عجلًا أنا أخوك، لماذا سمحت بذلك“، وهو الضائع بين عالمين: واحد يستنكره ولا يبالي به لعدم انسجامه مع واقعه، وعالم الصورة التي تمضه ولا تغيب! الشاطئ المتوهج في الثانية بعد الظهر، وجثة أخوه وأثرها الضائع على الرمال، مسرح الجريمة هو الشاطئ، والسؤال: ما الذي يفعله القتيل في هذا المكان، بل قل ما الذي يفعله القاتل؟ من منهما ابن المكان؟ ومن الأحق بالتواجد فيه؟ إشكالية أوجدها الاستعمار، لم ولن يحلها.

المشكلة عند قاضي ألبير كامو كانت تخليص روح القاتل من عبء الذنب، أكثر من التفكير في مَن قتل ومن هو، فقد حفل التحقيق معه بوقائع بعيدة عن الموضوع الأساس، وحكمت المحكمة عليه وجرمته بسبب من لامبالاته بوفاة أمه، ولأنه لم يبكيها حتى! أما سبب قتله للرجل ودوافعه ومن القتيل، فمسألة لم تجد عندهم مبررًا للحديث حولها، فالعربي وعائلته، عند كامو، بلا ملامح، أشبه باللاوجود، حتى الموت له اسم، وذاك مغيب، وهذا التغييب يعكس جوهر رؤية الاستعمار لشعوب المنطقة، وكأنها نكرات وجدت سهوًا على سطح البسيطة، وقد بحث المفكر إدوارد سعيد طويلًا في هذه الموضوعة التي تعكس الرؤية الدونية لشعوب المنطقة.

لا تسلم نفس المرء الذي يتعرض لوطأة الكارثة التي تطيح بروحه، من التردي والانحدار لأمراض نفسية مزمنة، نلحظها بشخصية الأم التي تغرق نفسها بثوب الوهم والسلبية، والتمتع بالأزمة وعدم الرغبة في الخروج منها، والاستسلام لحداد لا نهاية له، كأحد أشكال الاكتئاب الخانقة التي تعيش بها، وتغرق الابن الآخر في سراديبها المعتمة، فلا هو قادر على التمتع بحياة عادية كأترابه، ولا يتآلف وجدانيًا بالثأر الذي حصل، حيث الرغبة في الانتقام تعطل الحواس والقدرة على الحياة الطبيعية، فعندما انطلق المارد من القمقم، واستيقظت الحواس التي نجحت أمه في تعطيلها. المرء لا يدرك القوى التي تسيطر عليه، عندما يحب، تجلى ذلك في بصيص الضوء بعلاقته بالصبية التي تقتفي أثر القتيل، كإنسانة حرة لم يعد لأمثالها وجود. مريم نوع من النساء الذي اختفى اليوم من البلد، حرة، آسرة، متمردة، تعيش جسدها كهبة لا كخطيئة أو عار، تلك القصة التي لم تكتمل معها بحكم العطالة التي يعيشها.

رغم اعتراض داوود على تجاهل ألبير كامو لبلده وهويته، فإنه يقع أسيره في اللغة وتشابه الروح التي تطغى على الرواية، فهما يتشابهان في الإحساس الحيادي بالأم ووصف حالتها، نقطة الولوج بالعمل، وثانيًا البنية النفسية البعيدة عن الغيبيات والتعلق بالإله. سخريته من الثوابت الدينية، ناهيك عن غمزه من اللغو والنواح والتكرار في الكتاب المقدس، كذلك تعجبه من قرّاء القرآن، بين تهديد ووعيد وتذلل واسترحام، والجهر بأن أكثر ما يكرهه ساعة الصلاة وطقوسها الكاذبة، فالله عنده سؤال لا جواب، وهو يقول إن الموت أبعده عن الرب، عكس ما هو متداول عند العامة، الأمر الذي أدى إلى تكفيره وإهدار دمه، بسبب من طرقه باب المحرمات الدينية وفتح بوابة التساؤل العريض حولها “كيف تحرم الخمر في الأرض وتباح في الجنة”، ولكنه -وهذه تحسب له- لم يستثمر الحكاية للترويج لعمله؛ إذ اعتبر التهديد الذي يتعرض له لا يذكر تجاه البشر الذين يستباح دمهم في أرجاء العالم.

وأخيرًا فلسفة الوجود والخواء الإنساني، انعكست عند هارون الراوي، وهو يرزح تحت الأعباء النفسية التي وجد فيها، فهو أسير أحزان أمه التي صبغت حياته، وشبح أخيه القتيل، و ألبير كامو الذي لم يستطع أن ينفلت من إساره وأسلوبه، والفرنسي القتيل الثاني الذي لم توصله حكاية الثأر منه إلى الراحة المنشودة، وكذلك رجل الدين الذي يصر على الوساطة بينه وبين ربه، وهذا كله ينوء بوقعه الثقيل على الذات التي تنزع إلى الحرية والتمرد، وتضيق بموروثها من معتقد أو التزام أو قضية، بميل لا يتحقق للفردانية، والانعتاق بكل المعاني.

دعد ديب
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون