السبي الأسدي يستجر السبي الدولي



واجه الشعب السوري نظامًا استثنائيًا، لا في قوته العسكرية المُعدّة بشكل مسبق لمواجهة ثورة الشعب فحسب، بل في إصراره على البقاء في السلطة والحكم بشكل دائم، عبر توريث السلطة من الأب إلى الابن إلى الأبد، على رأس مجتمع رفض الملكية والحكم الملكي، منذ أن تشكّلت سورية الحديثة، ككيان سياسي قطري مستقل (بفعل سايكس بيكو) ومتميز عن الكيانات والدول القطرية العربية التي ولدت داخل المجتمع العربي، بعد الاستقلال عن كيان الإمبراطورية العثمانية، في الربع الأول من القرن العشرين. أي واجه السوريون نظامًا عمل على كسر إرادتهم المعاصرة والتاريخية الرافضة للملكية والحكم الملكي، أيًا يكن نوع العائلة أو الطائفة التي تعمل على جرهم إلى مستنقع السلالات العائلية المالكة والحاكمة.

عمل النظام السوري وأبدى قدرًا غير مسبوق في إصراره على كسر إرادة السوريين، إلى الحد الذي جعله يطرح شعاره الشهير والمشؤوم: “الأسد أو نحرق البلد”، ليس من أجل التخويف والترهيب فحسب بل من أجل التنفيذ المباشر، وهو الأمر الذي يُفسّر سرعة تكشير النظام عن أنيابه البربرية، من اليوم الأول لانطلاق الثورة السورية من أرض حوران، وذلك من خلال استخدام العنف العاري من أي غطاء، والمنفلت من أي ضابط، والمتحرر والمفتوح على كل الحدود؛ إذ لم يكتف النظام باستخدام الرصاص الحي في مواجهة المتظاهرين السلميين من اليوم الأول فحسب، بل تم استحضار كل أشكال وأنواع العنف الأخلاقي والسياسي، حتى في أشكالها الأكثر انحطاطًا، عدا عن استخدام العنف ضد خصم متهم بالعمالة للخارج الرجعي (كلنا يتذكر كذبة مؤامرة بندر بن سلطان السعودية التي كانت وراء تحرك أهل حوران) أو للعدو التاريخي الإسرائيلي (كلنا يتذكر قصة الشاب المصري الذي أُجبر على الظهور على التلفزيون السوري، والاعتراف بالعلاقة مع إسرائيل وأهل درعا الثائرة)، أقول عدا عن ذلك، فقد استخدم النظام العنف المحمل بشحنة طائفية غرائزية منفلتة من عقالها؛ إذ أرسل إلى درعا، منذ الأيام الأولى للثورة، شبيحته ذوي القمصان السوداء، في محاولة لتذكير أهل حوران بشكل خاص، والسوريين بشكل عام، باحتلال “حزب الله” في 7 أيار/ مايو 2007 مدينة بيروت، بعد حرب تموز/ يونيو 2006، مع كل مدلولات ذلك من الناحية الطائفية والعسكرية والسياسية، بما يعني أن القمع هنا لن يكون محملًا بشحنة سياسية فحسب، بل بشحنة طائفية غرائزية بربرية بدائية أيضًا، وهو الأمر الذي عكس نفسه ميدانيًا بأن أرسل النظام وحدات منتقاة من القطعان العسكرية والمدنية من الشبيحة؛ لسَبي مدينة درعا مهد الثورة السورية، وهو ما تُرجم عمليًا في حصار مدينة درعا، وارتكاب هذه القطعان المجازر، ووضع الضحايا في مقابر جماعية، وسبي المدينة بطريقة لم تعرفها مدينة عربية عبر التاريخ، إلا في زمن الاحتلال والاجتياح والسبي الذي قام به هولاكو لمدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية، والسبي الذي عرفته مدينة حماة في زمن الأسد الأب، في بداية الثمانينيات من القرن العشرين؛ حيث لم يقم النظام بالاعتداء على حياة البشر فحسب، بل قام بالاعتداء على أملاكهم وكراماتهم وأعراضهم أيضًا، فلم يسلم من أذى النظام لا الحجر ولا البشر، سواء أكانوا صغارًا أم كبارًا، نساءً أم رجالًا.

من المفارقات العجيبة في المأساة السورية، أن سبي مدينة درعا الذي عدّه السوريون حينئذ (أي في الأشهر الأولى للثورة) حدثًا غير مسبوق في تاريخهم السياسي، سيبدو فيما بعد، على مدى سبع سنوات، حدثًا صغيرًا بالمقارنة مع السبي الذي تعرضت له بقية المدن السورية التي عانت من الحصار والتجويع والقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والطائرات والغازات السامة الكيميائية، ومن ثم التهجير، وسرقة وجودهم وتاريخهم الجغرافي والمعنوي، فضلًا عن سرقة ممتلكاتهم.

هنا علينا القول إن أهم ما ميّز السبي الأسدي للشعب السوري أولًا: ليس كونه سبيًا مكشوفًا ومقصودًا، وكونه جاء في سياق الدفاع عن كرسي الحكم فحسب، بل إن هذا السبي كان محملًا بشحنة طائفية مكشوفة ضد الطائفة السنية التي تُشكّل أكبر الطوائف الإسلامية في سورية، وثانيًا: كان لهذا السبي تحالفاته وامتداداته الإقليمية، وهو الأمر الذي عرفته الساحة العراقية، بعد أن سلّمت حكومة نوري المالكي الشمالَ العراقي الذي تتمركز فيه 12 فرقة عسكرية مسلحة بأحدث الأسلحة، عن سابق الإصرار والتخطيط، لـ “تنظيم الدولة الإسلامية” (لم يكن عدد الدواعش يتجاوز 2000) لتجد في ذلك ذريعة لإيجاد إرهاب وخطر في المنطقة، يغطي على إرهاب وخطر بقاء النظام السوري في السلطة من جهة، ولإيجاد ذريعة للتنكيل وسبي الوسط والشمال العراقي السني، كما عرفت الساحة اللبنانية هذا السبي للطائفة السنية، من خلال “حزب الله” اللبناني الذي حول الجمهورية اللبنانية، على المكشوف، إلى محافظة إيرانية تابعة لولاية الفقيه الشيعي في (قم)، ثم امتد هذا السبي شرقًا ليصل إلى اليمن، على يد “أنصار الله” (الحوثيين) الذراع الإيراني الشيعي أو المتشيع في اليمن، وثالثًا: تمّ هذا السبي على مرأى ومسمع النظام الرأسمالي الذي تقوده أميركا، ويمكن القول إنه تم بإشرافه، بهدف تحقيق هزيمة تاريخية بمن يشكلون الغالبية السكانية داخل المجتمعات العربية عمومًا، وهو الأمر الذي يجعل من إمكانية نهوض شعوب المنطقة أمرًا صعبًا، بعد هذه الهزيمة والسبي، ولا سيما أن هذه الهزيمة تتم، ولو بشكل مخفي تارة ومكشوف تارة أخرى، تحت اسم تحالف الأقليات الطائفية في المنطقة، وحيث “إسرائيل” هي من ترعى سرًا هذا التحالف.

هنا يمكن القول إن تحالف ممثلي الأقليات (من الساسة ورجال الدين الطائفيين) في المنطقة هو تحالف تقوده وتدعمه “إسرائيل”، في السر وفي العلن، وهو بداية لتصهين كل المشاريع الطائفية في المنطقة العربية؛ ما يعني إقامة كيانات سياسية تقوم على أساس الدين والمذهب. إن سر تراخي أميركا مع الوجود والنفوذ الإيراني في المنطقة هو أن إيران تُشكّل رأس حربة مشروع تحالف الأقليات، كما أن سر الرضا الأميركي والإسرائيلي، على الدور الروسي في سورية، يأتي في إطار القبول الروسي بالسير في مشروع كهذا، مقابل السماح للدب الروسي بالخروج من حظيرته، واستعراض بعض قوته واستعادة شيء من كرامته المهدورة في تصفيات الحرب الباردة، ورابعًا: إن هذا السبي، ولا سيما السبي السوري الأسدي، تم من خلال الاستعانة بالخارج الإقليمي والدولي، ونقصد إيران وروسيا بشكل خاص، وهو الأمر الذي جعله سبيًا على سبي، أي إذا كان النظام قد قام بسبي الشعب السوري بنكهة طائفية؛ فإن القوى التي ساعدت على ذلك قامت بدورها بسبي الشعب السوري كله، إلى الحد الذي لم يسلم من هذا السبي حتى سيادة النظام على ذاته، إذا لم نقل إن سبي سيادة النظام كان أولى الخطوات التي تم من خلالها سبي الساحة السورية من حلفاء النظام: إيران وروسيا. وخامسًا: تطور هذا السبي ليصبح سبيًا دوليًا وإقليميًا شاملًا للساحة السورية، من خلال السعي المحموم الذي نشهده هذه الأيام لتقاسم الوجود السوري الجغرافي والبشري، بين مجموعة الدول التي تدخلت بالساحة السورية، والذين تحولوا مع الوقت إلى شركاء؛ لتصبح سورية بعد ذلك مسبية من إيران وروسيا وأميركا وغيرها، ولا نستبعد أن تعطى لـ “إسرائيل” حصة مكشوفة في هذا السبي الكلي.


نبيل ملحم


المصدر
جيرون