المرمطة!!



في عام 1965، وكان عمري 15 عامًا، عملت “مرمطون” في مطعم التيفولي، في بلدة برمانا اللبنانية. في ذلك الوقت عرفت أن “المرمطون” هو من يجلي الصحون، وكان ذلك أول احتكاك لي “بالحداثة”، وأكل الضفادع المقلية، وكنا في قريتنا نحتقرها جدًا، ونحتقر من يأكلها. ومن وقتها بدأت أتمرمط بالحياة…….

من الصعب على رجل مثلي، قارب السبعين من عمره، أن يتذكر كل المرمطات التي عاشها، لذلك سأكتفي بعرض أهم ما هو حاضر في ذاكرتي منها.

عام 1962، قادني والدي الشرطي من يدي إلى “زقاق الجن” في دمشق، وكان في ذلك الزمن بمثابة المنطقة الصناعية في دمشق، فكل ورشات تصليح السيارات موجودة هناك. وصلنا إلى محل لتنجيد مقاعد السيارات، فاستقبلنا صاحب المحل، وكان صديق والدي، وقال له أبي: ميخائيل سيعمل عندك هذا الصيف، وكنت قد أنهيت الصف السادس، فكم ستكون “جمعيته”؟

قال صاحب الكراج: “من شانك سأعطيه كل خميس ليرة سورية، خليه ينبسط، ويأكل بوظة على كيفه”. وكانت البوظة أحد الأحلام المقموعة لابن شرطي في دمشق، عنده عشرة أولاد، وراتبه أقل من 200 ليرة سورية.

في الأيام اللاحقة، كنت أحضر معي طعامي في “مطبقية” معدنية، أضعها في الزاوية النظيفة من المحل مع “مطبقيات” الآخرين. وفي موعد الغداء، كنت عندما أفتح “المطبقية” أجد حشرات متنوعة الشكل والحجم وقد تجمعت على الأطراف الخارجية للعلبة المعدنية، فأكتفي بمسحها بيدي قبل البدء بتناول الطعام. أحد الأيام كانت علبة الطعام تحتوي على فاصولية خضراء، وأنا أحب هذه الطبخة جدًا، عندما فتحت العلبة، اكتشفت أنها لم تكن مغلقة جيدًا، مما سمح لأسراب النمل المختلف الحجوم، بالوصول إلى الفاصولية، وكنت أمام خيارين: إما رمي الطعام في الزبالة والبقاء دون طعام حتى المساء، موعد العودة إلى البيت، أو تجاهل النمل وتناول الفاصولية. بعد صفنة، لم تستغرق دقيقة، تناولت الملعقة وحركت الفاصولية والنمل، فقد كان من الصعب جدًا فصلهما عن بعض، وأكلت سلطة نمل مع فاصولية للمرة الأولى في حياتي، وكانت النتيجة أنني لم أعد قادرًا على تناول الفاصولية لمدة عشر سنوات، ففي كل مرة أرى الفاصولية، بأي شكل كانت، كنت أتذكر طعم النمل وهو يتقصف تحت أسناني، ولم أستطع الشفاء من هذه الحساسية، إلى اليوم الذي قرأت فيه أن الهنود يأكلون النمل المملح، كما نأكل بذر القرع في سورية. وقد شفيت تمامًا، عندما قرأت أحد الأيام أن أهل السعودية ينتظرون بفارغ الصبر موسم الجراد، كي يجمعوا أكبر كمية منه ويملّحونه، ثم يتناولونه في تعليلاتهم المسائية، كما نتناول “فستق العبيد”.

ومن المرمطات التي لا تزال حاضرة في ذاكرتي، أنني عندما كنت أعمل كصحافي في بيروت عام 1981، رشحني أحد الفنانين الأصدقاء إلى رجل أعمال لبناني، كان بصدد طباعة كتاب عن طوابع لبنان، لصياغة تعريف بكل طابع، وقد جهدت أن يكون عملي جيدًا، ولكن عندما قرأ اللبناني ما كتبته، ضحك وقال لصديقي: يبدو أن ميخائيل يريد الحصول على الجنسية اللبنانية. وكان كلامه صفعة حقيقية لنزاهتي المهنية، فصمتّ وألقيتُ العمل في الزبالة. إلا أن الرجل أراد إكرامنا أنا وصديقي الفنان، فدعانا للعشاء في بيته. كان بيتًا كالقصر، وكانت المرة الأولى التي أرى خادمة حقيقية تقوم بخدمة الناس حول الطاولة في أحد البيوت، كانت نظيفة جدًا، وجميلة جدًا، وصبية جدًا، كانت أجمل من كل النساء اللواتي رأيتهن في القرية والمدينة، بل كنت أرى في طرف وجهها -وهي تغيّر الصحون- بعضَ ملامح العذراء، ولم أخرج من دهشتي وإعجابي بالفتاة، إلا عندما قدموا لنا صحن “القريدس”، فقد كانت المرة الأولى التي أراه فيها في صحن أمامي، دون أن أعرف كيف يُؤكل. انتظرت بعض الوقت لعلي أرى أحدهم يتعامل مع القريدس فأقلده، ولكن انتظاري طال، فقررت المغامرة: وضعت “فردة” قريدس في فمي كما هي، وبدأت اللوك، واستمر اللوك والعلك، ولكن حراشف القريدس بقيت عصية على التقطيع تحت أسناني، علمًا أن أسناني كانت كاملة وحقيقية، (فأنا لم أضع “فك أسنان” إلا بعد أن تجاوزت الستين)، إلى أن انتبهت الخادمة إلى “منبتي” الطبقي المتواضع، فتقدمت وتناولت “قريدسة”، وقالت بصوت مسموع، وهي ترفع حراشف الذيل: أستاذ، قد يكون من الأفضل غمس القريدس بهذا “السوس”، فطعمه يصبح أطيب. وهكذا خلصتني الصبية من موقف محرج دون كلام، وردت جميل إعجابي بها.

في النهاية، لا بدّ من الإشارة إلى أنني بحثت عن معنى كلمة “مرمطة”، فوجدت أحد المواقع الإلكترونية يعيدها الى أصل فرعوني، فبرأيه: كلمه “مرمطه” تعني “مارماتا” ومعناها ألم ووجع، وهو المعنى الذي نجد معادله الموضوعي في الواقع، مع وجود رئيس ممرمط كالسيسي لمصر.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون