“الهمروجة” مذهب جديد في صياغة الدساتير



كل مجتمع يحتاج إلى نظامٍ يحدد أسلوب الحكم وطبيعته وعلاقة الحكام بالمحكومين، ويوازن بين فكرتين متعارضتين في داخله، هما “السلطة” و”الحرية”، فكان الدستور الأسلوب أو الشكل الذي يمكن أن يحقق ذلك، ويرسم حدود العلاقة بين السلطات والأفراد. وكما هو معروف إن كلمة “دستور” هي في الأصل كلمة فارسية، مركبة من كلمة “دست” وتعني القاعدة، ومن كلمة “ور” وتعني صاحب، ومجموع الكلمتين يعني “صاحب القاعدة”، أي القاعدة التي يُعمل بمقتضاها، أو الدفتر الذي تجمع فيه قوانين الحكم وضوابطه.

عملية وضع الدساتير في العالم تعددت، واختلفت أساليبها باختلاف ظروف الدول وتركيبتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد شهدت البشرية أساليب متعددة لوضع الدساتير، يمكن اختصارها في أسلوبين: الأسلوب الأول اتخذ منحى غير ديمقراطي، استحوذ فيه الحكام “ملوكًا ورؤساء وأمراء وسلاطين”، على السلطة التأسيسية من الناحية القانونية، وهو ما عرف بأسلوب المنحة، وتخلل هذا الأسلوب محاولات شعبية لوضع الدساتير، عن طريق هيئات تعمل باسم الشعب، ضغطت على الحكام للاعتراف بحق الشعب في المشاركة في السلطة التأسيسية عن طريق التعاقد. وأما الأسلوب الثاني في وضع الدساتير فغلب عليه الطابع الديمقراطي، سمح هذا الأسلوب للشعب أن يتولى بنفسه صياغة وإقرار الدستور بواسطة “جمعية تأسيسية منتخبة”، أو بواسطة الاستفتاء في حالة عدم مباشرة الشعب السلطة التأسيسية بنفسه، بل يوكلها إلى هيئة أو لجنة مختصة، تضع مشروع الدستور، ومن ثم تعرضه على الاستفتاء الشعبي، ولا يصبح نافذًا إلا بعد حصوله على الموافقة الشعبية، وهنا يتطلب الأمر توفر وعي مجتمعي، ووجود أحزاب وقوى سياسية ومجتمعية حقيقية.

يقول الدكتور منير العجلاني في هذا الصدد: “الشعب هو وحده القادر على تعديل الدستور أو إبطاله أو وضع دستور جديد، وبما أن الشعب لا يستطيع أن يجتمع بكل أفراده؛ فإنه يختار منهم مجلسًا استثنائيًا خاصًا، لممارسة السلطة الدستورية ووضع الدستور، وهو ما نسميه (الجمعية التأسيسية). وهذا ما أكد عليه الفقيه الفرنسي “دوفيرجيه”. إن الجمعية التأسيسية جمعية مطلقة الحرية ليس فوق سلطتها سلطة، فهي تستطيع أن تصنع الدستور كما تشاء”. (الحقوق الدستورية لمنير العجلاني – طبعة 1955 – ص31).

للمرة الأولى منذ ظهور فكرة الدساتير، يشهد اليوم الفقه الدستوري في العالم ولادة مذهب جديد في وضع الدساتير، وصفه أحد المحامين الكبار بمذهب “الهمروجة والعبطة”، هذا الأسلوب الجديد، والفريد من نوعه في عالمنا المعاصر، كشفت عنه روسيا مؤخرًا في منتجع سوتشي الروسي، بالتعاون مع إيران وتركيا والنظام السوري وبعض المعارضين السوريين.

و”الهمروجة” في اللغة العربية تعني اللغط والاختلاط والالتباس، وعادة ما يطلق أهل الشام على اختلاط الأشياء وضجيجها وجعجعتها، بـ “الهمروجة”، وهو ما ينطبق تمامًا على الأعضاء المشاركين في سوتشي، ولا سيما المشاركين الذين أرسلهم نظام الأسد من دمشق، ويكفي استعراض الأسماء المشاركة حتى يكتشف المرء مدى استهزاء واستخفاف النظام وروسيا، بالعملية الدستورية وبالحوار السوري السوري، فبدلًا من أن يُرسل نظام الأسد شخصيات مشهودًا لها بأنها ذات علم ودراية بالعلوم الدستورية، أرسل شلة من الأشخاص لا علاقة لها بالدستور ولا بالحوار، باستثناء قلة قليلة لا يتعدى عددهم عدد أصابع اليد، للتغطية على ذوي السمعة السيئة، فبعض من أرسلهم يتميز بحرفية عالية في النفاق والتملق والانتهازية، وآخرون لديهم سجل حافل بالإجرام، ومن بينهم أيضًا بعض الذين امتهنوا السمسرة والنصب في مهنة المحاماة، وآخرون لا يعرفون شيئًا خارج عتبة بيوتهم، وهو أمر تقصّد النظام فعله بالتنسيق مع روسيا، ليقول لمن سيحضر من ممثلي المعارضة إن مستواكم عند هذا الحد.

في الجهة المقابلة، دخلت بعض الأسماء المحسوبة على المعارضة، لتلعب دور الوسيط والسمسار في ترشيح الأسماء لحضور المؤتمر، فقد تسرب من وراء الكواليس أن روسيا تعاقدت مع أربع أو خمس متعهدين، ليتولوا عنها مهمة ترشيح أسماء مضمونة لحضور ما سمّي بـ “الحوار الوطني السوري” في سوتشي.

فأي حوار وطني هذا؟ إذا كان النظام أرسل أسوأ ما لديه كممثلين عنه، وإذا كانت روسيا قد أعطت للسماسرة دورًا في تحديد من سيشارك في المؤتمر، وتركيا التي كان لها أيضًا دور في تحديد من سيمثلها من المعارضة، كما إيران التي يبدو أنها نسقت مع النظام في تحديد ممثليها.. وأي بدعة هذه في تشكيل لجنة دستورية، إذا كان المشاركون لم يتسن لهم معرفة بعضهم البعض.

ألفٌ وخمسمئة مشارك في حوار وطني، معظمهم لا يعرفون بعضهم، ولم يتحدثوا مع بعضهم من قبل، يحتاجون إلى يومين حتى يستطيعوا أن يقدّموا أنفسهم أو على الأقل حتى يسلمون على بعضهم، فكيف إذا تعلق الأمر بمؤتمر أطلقوا عليه “مؤتمر الحوار الوطني السوري”، المطلوب منه أن يتحاور فيه 1500 مشارك، لإنهاء حالة الحرب والانقسام بينهم، والاتفاق على المبادئ العامة لشكل الدولة السورية، ومن ثم الاتفاق على تشكيل لجنة مهمتها صياغة دستور جديد للبلاد. كل ذلك يجب أن يتم في خلال خمس ساعات!

أهو الإعجاز أم التعجيز؟ أم هي مجرد “همروجة”، أرادت روسيا من خلالها اكتساب شرعية سياسية، تؤكد نصرها العسكري، وتحميه بنصر سياسي تفرضه على المجتمع الدولي من خلال مفاوضات جنيف؟

لا أدري كيف سيتعامل الفقهاء الدستوريون في العالم العربي والعالم، مع هذا المذهب الفريد والصرعة الجديدة في صياغة ووضع الدساتير: “مذهب الهمروجة” برعاية روسيا الاتحادية؟!

وبعيدًا عن “همروجة” روسيا ومن لفَّ لفها، فكل ما نتمناه نحن -السوريين- أن نعود إلى الوراء نحو سبعين عامًا، لتحقيق ما وضعه لنا آباؤنا في مقدمة دستور 1950:

“إقامة العدل على أسس متينة، حتى يضمن كل إنسان حقه دون رهبة أو تحيز، وذلك بدعم القضاء وتوطيد استقلاله، في ظل نظام حكم جمهوري ديمقراطي حر. وضمان الحريات العامة الأساسية لكل مواطن، والعمل على أن يتمتع بها فعلًا في ظل القانون والنظام، لأن الحريات العامة هي أسمى ما تتمثل فيه معاني الشخصية والكرامة الإنسانية”.


ميشال شماس


المصدر
جيرون