رحيل المفكر العراقي فالح عبد الجبار في المنفى



عن عمر يناهز 72 عامًا، رحل الإثنين الماضي عالمُ الاجتماع المفكر الماركسي العراقي فالح عبد الجبار، على إثر إصابته بأزمة قلبية في أثناء تسجيل برنامج تلفزيوني، في العاصمة اللبنانية بيروت.

يُعد الراحل من أبرز علماء الاجتماع في العراق، في العقود الأخيرة، ومن أهم علماء الاجتماع العرب المتخصصين في دراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، وقد ركز بحوثه على علم اجتماع الدين ودور القانون والمجتمع المدني، كما اهتم بدراسة التشكيلات الاجتماعية وبنى ما قبل الدولة، كالعشيرة والطائفة، ودورها في تكوين الأمم. كذلك أولى اهتمامًا كبيرًا بدراسة الحركات الاجتماعية الإسلامية من منظور سوسيولوجي.

تناول فالح عبد الجبار (من مواليد بغداد 1946)، في كتبه وبحوثه الأكاديمية موضوعات المجتمع المدني والطبقات الاجتماعية والدراسات الماركسية، مكرسًا سنوات طويلة من حياته البحثية لترجمة كتاب (رأس المال) لكارل ماركس، الذي صدرت طبعته العربية في ثلاثة مجلدات، كما أصدر كتابين عما بعد الماركسية: أحدهما بالعربية والثاني بالإنجليزية، حمل عنوان (ما بعد الماركسية والشرق الأوسط).

شذرات من سيرته العلمية..

غادر صاحب (ما بعد ماركس)، العراق عام 1978. وعمل أستاذًا وباحثًا في علم الاجتماع، في جامعة لندن، مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية (بيركبيرك)، التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه. وقد عمل سابقًا محاضرًا في جامعة (London Metropolitan University).

ومنذ عام 1994 قاد مجموعة بحث (المنتدى الثقافي العراقي) في كلية بيركبيك. وعمل سابقًا مديرًا للبحث والنشر في (مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي) التي يوجد مقره في نيقوسيا وبيروت ما بين عامي (1983 – 1990).

كما شارك باحثًا ومحاضرًا في عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية، من بينها (معهد دراسات السلام) في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، و(مدرسة الدراسات الأفريقية والشرقية) “سواس” بجامعة لندن وجامعة ميتروبوليتان – لندن وجامعة (اكستر) في بريطانيا.

ترك الفقيد في مجالات تخصصه عددًا من البحوث والكتب من بينها: (الحركة الشيعية في العراق) 2003، وحرر كتاب (آيات الله والصوفيون والأيديولوجيون) 2002، وقد صدر الكتابان باللغة الإنجليزية.

ومن أشهر مؤلفاته: “العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الشيعي- نموذج العراق“، “الدولة والمجتمع المدني في العراق“، “الديموقراطية المستحيلة – حالة العراق“، “القبائل والسلطة في الشرق الأوسط”، “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب”،”معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي”، “المادية والفكر الديني المعاصر”، “بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي (أبحاث أولية)”، “فرضيات حول الاشتراكية”، و”المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب”. وله من الترجمات: “الاقتصاد السياسي للتخلف”، “موجز رأس المال”، “رأس المال”، “نتائج عملية الإنتاج المباشرة”.

وكان آخر نتاجاته في عام 2017، كتاب (الدولة – اللوياثان الجديد)، وكتاب أثار الكثير من الجدل عن “تنظيم الدولة الإسلامية” ودولة خلافته المزعومة، تحت عنوان: (دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي “داعش” والمجتمع المحلي في العراق)”، الذي صدر عن (المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسيات)، وقد حاول من خلال هذا الكتاب إعادة النظر برحلة أو حكاية تشكل المخيال السني في العراق منذ العام 2003.

وكان المفكر العراقي يعتقد أن الأزمة التي نعيشها اليوم حيال الحركات الجهادية هي نتيجة لما يدعوه بـ (الدولة العربية الفاشلة).

كلمات في وداعه بالفضاء الإلكتروني..

ما إن شاع خبر رحيل فالح عبد الجبار، أحد أعلام التنوير الفكري في العالم العربي، حتى راح أصدقاؤه من المبدعين العرب يرثونه على جدران صفحاتهم في موقع (فيسبوك)، فكتب المخرج السوري هيثم حقي: “وداعًا للصديق الباحث العراقي والمترجم فالح عبد الجبار. والعزاء لزوجته العزيزة الناقدة فاطمة المحسن، ولصديقنا المشترك التشكيلي الكبير جبر علوان… لم نكن ندري جبر وأنا أننا بلقاء الصدفة هذا نودّع فالح الذي يغيب اليوم تاركًا إرثًا هامًا من الكتب والأبحاث والمقالات، إرثًا مثيرًا للنقاش والاحترام لإنسان وصديق خسرته الساحة الثقافية العربية”.

وكتب الكاتب والمؤرخ الفلسطيني ماهر الشريف: “فالح العزيز فجعتنا برحيلك الصاعق… مساء يوم الأربعاء الفائت، تحدث معي هاتفيًا من منزل صديقنا ورفيقنا المشترك كريم مروة، وطلب مني أن نلتقي كي نتشاور في فكرة عقد مؤتمر علمي بمناسبة مرور 150 عامًا على صدور (رأس المال) لكارل ماركس، فأخبرته أنني سأسافر لبضعة أيام خارج لبنان، وسنلتقي حتمًا بعد عودتي.. فالح أيها الصديق والرفيق العزيز وداعًا..”.

وكتب الفيلسوف الفلسطيني أحمد برقاوي: “وغاب فالح عبد الجبار، الصديق النبيل، الأكاديمي المثقف المهموم، المشرد. أستعيد حضورك في دمشق، أيام تحلقنا حول مجلتي (الهدف) و(الحرية) ومشروع (عيبال)، وأتألم”.

بدوره كتب المفكر اللبناني فواز طرابلسي: “وردة حمراء في وداع فالح عبد الجبار
المواطن العراقي في المنفى، الديمقراطي الحر، والماركسي الخلاق”.

وكتب الأكاديمي والناقد الأدبي السعودي عبد الله الغذامي: “باحث سخر عمره كله للمعرفة والبحث، وكافح من أجل عراق حر وديمقراطي، رحمه الله، وعزائي لزوجته الباحثة فاطمة محسن: لست وحدك من فقد عزيزًا، الكل يفقده ويعزي فيه”.

عراقيون يرثون صاحب “دولة الخلافة.. “

(الفيسبوك) العراقي غرق -أيضًا- بالحزن لرحيل فالح عبد الجبار، فكتب الروائي سعد محمد رحيم: “برحيل الدكتور فالح عبد الجبار، نكون قد خسرنا رمزًا من رموز ثقافتنا التنويرية، ومفكرًا ذا عقل منهجي رصين”، وذكر (رحيم) بالقراءة التي أعدها ونشرها في وقت سابق لكتاب (الاستشراق والإسلام) الذي قام بإعداده وترجمته الراحل، والذي صدر عن دار المدى 2006.

وكتب الأكاديمي والباحث في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، الدكتور خزعل الماجدي: “فالح عبد الجبار عالم الاجتماع العراقي المميّز والمثابر. لروحه السلام ولاسمه الذكر الخالد، فقد كان مفكرًا من الطراز الرفيع، فهو بقدر أكاديميته الرصينة فإنه يمتلك الفكر الثاقب الخلّاق والقدرة على رصد وتحليل الظواهر الصريحة والخفيّة في حقول المجتمع والسياسة والفكر”.

وكتب الروائي إبراهيم أحمد: “رحلت يا فالح، في وقت نحتاجك فيه كثيرًا. نعت حكمتك عبر مسار طويل اليم تراوح بين القلم والسلاح. عرفتك منذ أكثر من أربعين عامًا جادًا مثابرًا حد الصرامة. كنت متألقًا في طليعة جيلنا الذي شهد الأحداث الجسام، وعانى آلامها وأحزانها، وحاول تلقي خيباتها وصدماتها، بالمزيد من الوعي والإبداع”. وأضاف (أحمد): “كنت أمني نفسي بلقاك الأسبوع المقبل في بيروت. لي فيما تركت لقاءات أخرى..”.

وكتب الروائي فلاح رحيم: “أي علم وأي خسارة! غياب فالح عبد الجبار في هذا الوقت العصيب، الذي يواجه فيه العراق كل هذا التعقيد من الأسئلة، سيترك فراغًا فاغرًا. حقق عبد الجبار نضجًا فكريًا وسياسيًا لا يتاح إلا لنخبة منتقاة من المفكرين والناشطين مثله، وكرس نفسه للمحنة العراقية فكرًا وعملًا منذ البداية. عزاؤنا الوحيد أن كتبه وآراءه ستبقى في عقول الأجيال القادمة وضمائرها. كانت حياته أمثولة للفكر الحي المشغول بشروط وجوده ووقائع يومه. أعمق التعازي ومشاعر المواساة إلى البقية العطرة من الفقيد الصديقة العزيزة والمثقفة الأصيلة فاطمة المحسن، وإلى كل أحبته ومريديه”.

هذا، ونعاه الباحث والمؤرخ العراقي رشيد الخيّون، في تغريدة له على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) قائلًا: “رحيل فالح عبد الجبار، في هذا الوقت، خسارة لا تعوض، كان بفكره وبقلمه وبصوته ومركزه وبحضوره باحثًا وكاتبًا معاندًا للتخلف والانحطاط. أجد صعوبة في بث كلمات الرثاء، فقدك يا فالح غدرني وغدر بجبهة فكرية وثقافية جمعتها وشكلتها محنة عقل وضمير ووطن، تركت تراثًا قيمًا فيه عمق الفكرة وصلابة الموقف”.


أوس يعقوب


المصدر
جيرون