إيران و”إسرائيل”: مواجهة أم “مناوشة”



الفهرس

مقدمة

أولًا: من أوقع من في الكمين؟

ثانيًا: إخفاقات روسية مرتبطة

ثالثًا: إيران  الباحثة عن هلال غير مُكتمل

     1- مواقف أميركية

     2- مواقف روسية

     3- مواقف إسرائيلية

رابعًا: الأعداء الأصدقاء وخدعة الممانعة

خامسًا: صراع محاور

سادسًا: خاتمة

 مقدمة

في العاشر من شباط/ فبراير 2018، ولأول مرة منذ أربعين عامًا، تسقط طائرة إسرائيلية بنيران أُطلقت من سورية. لكن، ما لم يُسعد السوريين أنها كانت “لعبة” إيرانية- إسرائيلية، أو تصفية حسابات بينهما، وليست موقفًا سوريًا وطنيًا في مواجهة محتل قديم لا يتوقف عن انتهاك السيادة.

لم يُسقط النظام السوري طائرة إسرائيلية واحدة خلال 40 سنة، بل لم يُطلق رصاصة واحدة على “إسرائيل” التي قامت بهجمات بسلاح الطيران عشرات المرات، قبل الثورة وبعدها، وقام بحماية الحدود الإسرائيلية بشكل مُحكم.

طوال أكثر من عقد ونصف، ومنذ استلام بشار الأسد السلطة، قصفت “إسرائيل” عشرات المواقع العسكرية التابعة للنظام وللميليشيات المرتبطة بإيران العاملة في سورية، من دون أي رد مقابل، وأقصى ما صدر عن النظام هو التوعّد بـ “الرد في الوقت المناسب”، الذي لم يكن ليحين طوال 18 عامًا. لكن، هذه المرة كان هناك رد. لم يتم التأكد إن كان ردًا سوريًا أم إيرانيًا أم روسيًا، لكن المؤكد أن طائرة حربية إسرائيلية أُسقطت من مضادات جوية في سورية، وهو أمر جلل بالنسبة إلى “إسرائيل”.

هذا الحدث، غير المتوقع، طرح الكثير من التساؤلات حول هوية الفاعل، وسبب الرد هذه المرة، وارتباطه بمواجهات غير مباشرة، روسية- أميركية، والتداعيات التي يمكن أن تنتج عنه، وموقف الدول الكبرى من الحدث نفسه، وعلاقتها به، وفيما إذا كان سيفتح مرحلة جديدة من التصعيد بين إيران و”إسرائيل” على وجه الخصوص.

 

أولًا: مَن أوقع مَن في الكمين؟

في ذلك اليوم اخترقت طائرة إيرانية من دون طيار من طراز (سيمورغ) شمال شرقي “إسرائيل”، من محطة تحكّم أرضية متنقلة تابعة لـ (الحرس الثوري الإسلامي) الإيراني في قاعدة “التيفور” الجوية السورية بالقرب من تدمر (وفقًا لمصادر عسكرية إسرائيلية)، وبعد توغل دام نحو تسعين ثانية، أَسقطت طائرة هليكوبتر تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي الطائرة فوق وادي (بيت شآن)، ثم سارع الجيش الإسرائيلي لضرب قاعدة (التيفور) بواسطة سرب من الطائرات، وردًا على ذلك، أُطلقت من سورية صواريخ أرض- جو على الطائرات الإسرائيلية، وتم إسقاط طائرة (F-16) وهبط الطياران داخل “إسرائيل”.

اتهمت “إسرائيل” إيران مباشرة بالعملية، واللافت في الرد الإسرائيلي هذا أنه لم يأت على ذكر النظام السوري، حيث قال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي “نعتبر الحادث هجومًا إيرانيًا على سيادة إسرائيل”، و”تجرّ إيران المنطقة نحو مغامرة لا تعلم كيف تنتهي”. وسرعان ما قامت “إسرائيل” بدورة تصعيد استهدفت بالطيران اثني عشر موقعًا عسكريًا داخل سورية خلال 24 ساعة، طالت خصوصًا دفاعات جوية ورادارات بالقرب من دمشق ودرعا، فضلًا عن ثلاثة مواقع عسكرية تتبع لقوات إيرانية في تل المانع والديماس وتل أبو الثعلب.

تحدثت وسائل إعلام النظام السوري عن “انتصار تاريخي أسطوري”، كما تحدثت وسائل الإعلام الموالية للنظام عن أن سورية “هي من أوقعت “إسرائيل” في كمين محكم، وقضت على نظرية التفوق الإسرائيلي”، وجزمت وسائل الإعلام تلك بأن سورية “استطاعت إحباط المؤامرة على الأرض واليوم أحبطتها في السماء”، وقالت إن “حالة رعب غير مسبوقة تعمّ إسرائيل”، وذهبت إلى أبعد من ذلك لتقول إن الإسرائيليين “سيهربون من فلسطين قريبًا”، وأن أميركا “باتت في ورطة وتواجه مصيدة وستعيد دراسة حالة طائراتها”؛ فيما أكّدت وسائل الإعلام المقربة من “حزب الله” عن “فخّ إيراني نُصب للإسرائيليين” ووقعوا فيه.

يمكن التندّر بادعاءات وسائل الإعلام السورية حول العملية، ويمكن تحميل إيران مسؤولية تعريض سورية والسوريين لقصف إسرائيلي غير مطلوب في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أن إسقاط طائرة حربية إسرائيلية معادية يُثلج قلب السوريين، لكن لا يُسعدهم أن تكون العملية لعبة إيرانية ساحتها الأرض السورية، وأن تنطلق حرب إيرانية- إسرائيلية على الأرض السورية، وفي السماء السورية المستباحة من الجميع.

لكن، مقابل فرضية الكمين الإيراني- السوري هذه، هناك فرضية أخرى تُشير إلى كمين إسرائيلي معاكس، كان ينتظره الإسرائيليون لتدمير 50% من الدفاعات الجوية السورية (وفق ادّعاء الجيش الإسرائيلي).

كما أن هناك فرضية أخرى، أبعد من هذه، تفترض أن لروسيا ضلعًا في الموضوع، على الرغم من أن “إسرائيل” لم تجد أي دليل على أن الصواريخ أو الرادارات التي تديرها روسيا قد ساهمت في إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، لكن هذا لا يمنع من أن يكون هناك انتقام روسي غير مباشر من الولايات المتحدة على الرغم من الرابط المتين بين روسيا و”إسرائيل”، انتقام يُقلق الأميركيين أكثر مما يخدش حياء الروس، خاصة بعد سلسلة من الخسائر المعتبرة التي مُنيت بها روسيا خلال الأيام التي سبقت إسقاط الطائرة الإسرائيلية.

في واقع الأمر، وبعيدًا عن نظريات “الكمائن”، لا يُعتبر إسقاط طائرة حربية إسرائيلية حدثًا عابرًا، ويمكن النظر إليه على أنه رسالة من “طرف ما” إلى “إسرائيل”، أو ربما للولايات المتحدة التي تربطها علاقات استراتيجية عميقة مع “إسرائيل”، قد تكون رسالة إيرانية أو روسية، فضلًا عن أنها يمكن أن تكون توريطًا إيرانيًا لروسيا.

ثانيًا: إخفاقات روسية مرتبطة

من ناحية التوقيت، لا بد من ملاحظة أن إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية أتى متزامنًا مع عدة أحداث مهمة، وربما مفصلية، جرت في سورية، على رأسها أن هذا الحدث جاء بعد أيام من استهداف الولايات المتحدة أرتال مقاتلين وميليشيات موالية للنظام السوري شمالي دير الزور، أرتالًا حاولت في السابع من شباط/ فبراير الاقتراب من حقل (كونيكو) للغاز الذي تُسيطر عليه (وحدات حماية الشعب) الكردية المدعومة أميركيًا، أسفر عن مقتل أكثر من 600 مقاتل، كان من بينهم 214 مقاتلًا روسيًا من شركات مرتزقة تستفيد منهم روسيا في سورية لتقليل خسائرها الرسمية بالمقاتلين (وفق تقديرات الإعلام الروسي).

الحدث الآخر الذي لا يقلّ أهمية عن السابق هو إسقاط فصائل المعارضة السورية المسلحة طائرة حربية روسية من نوع (سوخوي 25) فوق بلدة معصران، كانت تستهدف منطقة سراقب في محافظة إدلب (شمال غرب)، وقُتل طيارها بعد أن سقط في منطقة خاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية. ويُعتقد أن فصائل المعارضة السورية المسلحة ربما تكون قد حصلت على المضادات الجوية من طرف دولي قوي وقادر على فرض إرادته، وهو ما ينطبق على الولايات المتحدة تحديدًا.

الحدث الثالث الذي لا يمكن إغفاله، ويمكن اعتباره حدثًا مرتبطًا، هو فشل (مؤتمر سوتشي) الروسي، الذي عُقد في 20 كانون الثاني/ يناير بإشراف من الكرملين، وسط رغبة شديدة في إنجاحه من قبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شخصيًا، لما يحققه من دعاية إضافية له قبيل الانتخابات الروسية التي ستجري في آذار/ مارس 2018، حيث كان لمقاطعة المعارضة السورية أثر كبير في إفشاله، تلك المعارضة التي شجّعها على المقاطعة مواقف وتصريحات أميركية تؤكد ضآلة المؤتمر وعبثيته، ورفض واشنطن القاطع أن يكون بديلًا عن (مؤتمر جنيف) الأممي بأي شكل من الأشكال.

وهنا يمكن الإشارة أيضًا إلى تخريب طائرات روسية في مطار حميميم بعد هجوم بأسراب طائرات (درون) استهدف القاعدة العسكرية الروسية في سورية في مطلع كانون الثاني/ يناير 2018، الأمر الذي دفع موسكو لأن تطلب من القوى الدولية التي تدعم فصائل المعارضة السورية المسلحة التوقف عن مدها بأسلحة نوعية.

إضافة إلى هذه الإخفاقات والنكسات الروسية، يمكن التذكير بخوف يتملك الروس من إخفاق آخر يتعلق بالعلاقة الروسية- التركية، التي بدأت الولايات المتحدة تدخل على خطها لتقويضها أو على الأقل للتشويش عليها، وخاصة بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن تركيا “دولة حليفة”، وأن (عملية عفرين) “لن تتسبب بفوضى أو انهيار علاقات الولايات المتحدة مع أنقرة”، وبعد  أن أكدت أيضًا أن واشنطن “تُجري اتصالات مستمرة ومنتظمة مع أنقرة”، إضافة إلى تصريح المتحدث باسم التحالف الدولي لمحاربة (داعش) بأن البنتاغون “لن يكون عقبة أمام العمليات التركية المحتملة” في عفرين، (توّجها فيما بعد وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، بزيارة إلى “الحليف التركي السابق”، عضو حلف الناتو، في 15 شباط/ فبراير).

ليس لروسيا أي مصلحة في ضرب “إسرائيل”، إذ تربطها معها اتفاقيات عسكرية للتنسيق في سورية، و”قناة لتبادل المعلومات” حول التطورات الجارية فيها منذ أيلول/ سبتمبر 2015، وليس بين الطرفين أي نزاعات أو تنافس على مناطق بعينها، كما أن الوجود الروسي في سورية لا يضرّ “إسرائيل”، وقصف “إسرائيل” مقرات عسكرية تابعة للنظام السوري لا يضر روسيا، طالما أنه يُدمّر أسلحة فقط ولا يُعرّض النظام لخطر الانهيار أو السقوط، بل قد يفيد روسيا التي ستقوم بتعويض هذا السلاح للنظام السوري بعمليات تجارية لاحقة الدفع.

ولا بد من ملاحظة إعلان نائب قائد القوات الجوية والفضائية الروسية، سيرجي يشيرياكوف، في وقت سابق، عن توحيد نظم الدفاع الجوي من خلال دمج نظم الاستخبارات الجوية والإنذار المبكر الروسية مع نظيرتها السورية في نظام واحد.

لكن، مع كل ما سبق، قد تُفكّر روسيا بالانتقام من الولايات المتحدة، وبما أنها تعرف خطورة التحرش المباشر بالجيش الأميركي (لم تنس ما حصل في شمالي دير الزور)، فهي تُفضّل التحرش أو الانتقام غير المباشر، بأهم أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهو هنا “إسرائيل”، عبر وسيط، وهو هنا إيران، ويمكن التوقف عند ردة فعل روسيا التي لم تفعل شيئًا سوى الصمت والدعوة للتهدئة، وادعائها بأنه ليس لها معرفة بالأمر، على الرغم من أن سلاح طيرانها وراداراتها ومضاداتها الجوية تُغطّي سماء سورية منذ عام 2015. هذا الافتراض، الذي لا يمكن استبعاده، يمتلك عناصر القوة التي يحملها افتراض آخر له علاقة بمخاطر تتهدد إيران وحدها بشكل مباشر وجدّي.

ثالثًا: إيران الباحثة عن هلال غير مُكتمل

من المُرجّح، وبشدة، أن يكون إسقاط الطائرة الإسرائيلية رسالة إيرانية للولايات المتحدة تحديدًا، رسالة لا تنوي إيران تحويلها إلى مواجهة مباشرة مع “إسرائيل”، أو إلى حرب مفتوحة، بل رسالة لإعادة الاعتبار للدور الإيراني في سورية، وتذكير الولايات المتحدة بأن إيران قادرة على إثارة الكثير من المشاكل والقلاقل والفوضى، وتستطيع ببساطة جرّ “إسرائيل” إلى حرب ساحتها سورية ما لم يتم أخذ مصالحها، عند تقاسم المصالح في الساحة السورية، في الحسبان، ولتقطع الطريق على أي محاولة لتجاوزها، خاصة في ظل كلام عن اتفاقات روسية- إسرائيلية، وروسية- أميركية، لتحجيم النفوذ الإيراني في سورية، وفي هذا السياق نلحظ:

1- مواقف أميركية

مع مطلع العام الجاري، بدأ أكثر من طرف ضالع بالشأن السوري يُلمح إلى ضرورة تحجيم أو إنهاء التدخل الإيراني في سورية، وعلى رأس هذه الأطراف الولايات المتحدة التي أعلنت في 17 كانون الثاني/ يناير 2018، عبر وزير خارجيتها، ريكس تيلرسون، عن استراتيجية جديدة فيما يخص سورية والمنطقة خلال المرحلة المقبلة، وطرحت جملة من القضايا، أهمها قرارها البقاء في سورية، وعدم ارتكابها “خطأ 2011 العراقي” الذي خرجت بموجبه القوات الأميركية من العراق فاسحة المجال لهيمنة إيران ولإكمال هلالها الاحتلالي ذي اللبوس الطائفي، والأسوأ بالنسبة إلى إيران هو تشديد الاستراتيجية الأميركية الجديدة على الرفض الكامل لوجودها على كامل الأرض السورية، وعدم السماح لها بـ “الاقتراب من هدفها الكبير وهو السيطرة على المنطقة”، وهو رسالة واضحة لإيران بأنه لن يكون مسموحًا لها الهيمنة على سورية بأي شكل.

كذلك أعلنت (عبر التحالف الدولي الذي تقوده) في 14 كانون الثاني/ يناير 2018 أنها تعمل على تشكيل قوة عسكرية في سورية قوامها 30 ألف مقاتل، لتنتشر على طول الشريط الحدودي مع تركيا شمالًا، وعلى الحدود العراقية إلى الجهة الشرقية الجنوبية، وهذا يعني ضمنًا قطع الطريق على الميليشيات الإيرانية، والسلاح الإيراني، ومنع انتقاله من العراق إلى سورية، أو عبرها إلى لبنان، أي، عمليًا، قطع طريق “الهلال الشيعي” الذي تحلم به إيران.

كذلك، لا بد من الأخذ في الحسبان أن اتفاقية (وقف التصعيد) في جنوبي سورية تستهدف أساسًا الميليشيات التابعة لإيران، وتشترط إبعادها عن الحدود الإسرائيلية مسافة 40 كم كحد أدنى.

لا شك في أن الولايات المتحدة راضية عن إسراع “إسرائيل” إلى قصف اثني عشر موقعًا في سورية، استهدفت فيها نقاطًا عسكرية سورية وإيرانية، منها مطار الـ (تيفور)؛ ومن المرجح أن تتابع تقدمها في استراتيجيتها الجديدة، آملة من وراء ذلك إحراج روسيا ودفعها إلى العمل على الحد من التمدد الإيراني في سورية.

2- مواقف روسية

في السياق نفسه، صدرت تقارير روسية عدّة تُشير إلى انزعاج روسي من الهيمنة الإيرانية في سورية، وعدم قدرة فعلية على لجم التمدد الإيراني على الأرض وفي المجتمع، وانزعاجها أيضًا من العلاقة الخلفية بين نظام الأسد وإيران بعيدًا عن العين الروسية. لكن روسيا، في هذا الموضوع، وضعت نفسها بين فكيّ كماشة، فهي لا تريد للنفوذ الإيراني في سورية أن يطغى، وفي الوقت نفسه فإن التحالف مع طهران يخدم مصالحها الإقليمية، وهي لا تستغني عن إيران بريًا كمُكمّل ضروري لتدخلها العسكري، حيث لا تمتلك قوات برية كافية سوى الميليشيات الإيرانية وبقايا قوات النظام لتملأ الفراغ الذي تُخلّفه هجماتها المّدمّرة لحواضن المعارضة السورية، في ظل عدم حماستها لفكرة إرسال قوات برية إلى سورية تحل محل الميليشيات الموالية لإيران.

وهنا يمكن تفسير صمت روسيا عن التحرش الإيراني والرد الإسرائيلي القاسي، وامتناعها عن استخدام أنظمتها المتقدمة المضادة للطائرات للتصدي للضربات الإسرائيلية، على أنه استعداد لغضّ الطرف، ذلك أن ما قامت به إيران استدعى، في المقابل، غارات إسرائيلية ترى موسكو أنها تساهم بشكل غير مباشر في الحد من الهيمنة الإيرانية، بدلًا من أن تقوم هي في العمل على الحد من هذه الهيمنة، الأمر الذي يُعرّضها لإحراج أمام من هو حليفها.

إضافة إلى ذلك، فإن العلاقة الروسية- الإيرانية تمر بمرحلة تُقلق إيران، ذلك أن روسيا باتت صاحبة قرار الحرب والسلم في المشهد السوري- ضمن الحلف الروسي الإيراني السوري-  وتتحكّم في الصراع وفقًا لحساباتها، وهي التي هيمنت على اجتماعات أستانا، وعلى مؤتمر سوتشي، في حين كان الدور الإيراني هامشيًا وتكميليًا لا أكثر؛ كما أن روسيا هي المقرر في مسألة استمرار أو انهيار اتفاقيات (خفض التصعيد)، وهذا كله تحجيم روسي للدور الإيراني.

3- مواقف إسرائيلية

إلى ذلك أيضًا، تأخذ طهران زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى موسكو على محمل الجد، حيث التقى في 29 كانون الثاني/ يناير 2018 بالرئيس بوتين ضمن سلسلة من لقاءات متكررة بينهما بدءًا من التدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015؛ وعرض عليه هذه المرة الأمور المقلقة لتل أبيب، وشملت أساسًا: وجود أربعة مصانع إيرانية للسلاح في سورية ولبنان، وانتشار “حزب الله” وميليشيات إيرانية قرب خط فك الاشتباك في الجولان، وعدم تنفيذ “حزب الله” لكامل بنود اتفاق خفض التصعيد الأميركي- الروسي- الأردني؛ واتفقا على عقد اجتماع بين مجلسي الأمن القوميين، الروسي والإسرائيلي، في تل أبيب (الأمر الذي حصل في 30 من الشهر نفسه)، للخروج بخطة تتناول مشاغل عسكرية وأمنية، وتنسيق العمليات بحيث تواصل “إسرائيل” هجماتها ضد أهداف إيرانية من دون اعتراض روسي.

كل ما سبق، يدفع إيران لتكتيكات قد تبدو طائشة، سواء أكانت بالاتفاق مع حلفائها في سورية أو بمعزل عنهم، للحفاظ على نفوذ أنفقت عليه مليارات الدولارات، وأضعفت اقتصادها وخرّبت علاقاتها الدولية من أجل فرضه.

في المقابل، تُغامر إيران مغامرة كبيرة بمجرد التفكير بدخول حرب مفتوحة مع “إسرائيل” في سورية، ذلك أن الأوضاع الاقتصادية الإيرانية المتردية لا تسمح بذلك، كما أن الاحتجاجات التي طالبت النظام الإيراني مطلع العام الجاري بوقف التدخل الخارجي بشؤون البلاد الأخرى ما زالت تُثير قلق النظام هناك.

رابعًا: الأعداء الأصدقاء وخدعة الممانعة

بالتأكيد، لم تسع إيران لجمع معلومات استخباراتية عن “إسرائيل” عندما أطلقت الطائرة من دون طيار، لأن المهمة يمكن أن تقوم بها طائرات (درون) صغيرة؛ كما أن إيران معتادة على الاعتماد على وكيلها في المنطقة “حزب الله”، ما يُشير إلى أن العملية هدفت إلى استفزاز “إسرائيل” أو تسجيل نقاط عليها، والسعي لبث دعاية عن قدراتها الخاصة، أو، في الغالب، إلى اختبار الخطوط الحمراء الأميركية في سورية.

هذا فضلًا عن أن إيران لم تتسبب بأي أذى لإسرائيل خلال كل الحقبة التي كانت تدّعي فيها أنها ريادية في “حلف الممانعة”، الذي يضمها إلى جانب النظام السوري و”حزب الله” اللبناني، وصدّعت الرؤوس بتهديداتها لإسرائيل خلال عقود من دون أن تقوم بأي عمل ضدها، بل على العكس تمامًا، سعت، كما “إسرائيل”، لاختراق الدول العربية وتفكيكها وبث الفوضى والحروب الداخلية فيها، وشوّهت مفهوم السيادة الوطنية، كما عمّقت الصراعات المذهبية والقومية في الكثير منها.

كذلك، لم تشعر السلطة في دمشق بأي حرج في بداية الثورة، في نيسان/ أبريل 2011، عندما وجهت رسالة إلى تل أبيب على لسان رامي مخلوف ابن خال رأس النظام، قال فيها إنه “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية”، بما يُفهم منه أنه نصيحة لتل أبيب بأن بقاء نظام الأسد واستقراره مصلحة لاستقرار “إسرائيل”.

كثيرًا ما أقرّ مسؤولون إسرائيليون بأن بقاء نظام الأسد في دمشق أمر مهم لإسرائيل، وهو أفضل من أي خيار بديل غير معروف؛ فإسرائيل لم تشهد هدوءًا على الجبهة السورية كما شهدت منذ حرب الـ 73  وحتى الآن، حيث وفّر نظام الأسد الأمان الكامل لإسرائيل على حدودها مع سورية، في حين أفرط بالادعاء بأنه نظام ممانعة ومواجهة وصمود وتصدّ في مواجهة “إسرائيل”، وحامي حمى العالم العربي الذي ابتزّه ماليًا وسياسيًا على أرضية هذا الادعاء.

ساهمت “إسرائيل” بإطالة عمر نظام بشار الأسد، بوصفه ضمانة لاستقرار أمنها. في المقابل، “تاجر” النظام بالمقاومة والممانعة لتعزيز “شرعيته” التي فقدها بثورة شعبه ضده، ولتشريع مصادرته الحريات، ونهبه لثروات المجتمع.

تخضع استراتيجية “إسرائيل” لتوازنات دقيقة، فهي لا ترى أن ما تقوم به إيران في سورية خطر عليها، فتدمير سورية الذي ساهمت فيه إيران بشكل عميق يتفق مع الأهداف الإسرائيلية، وهي صمتت عن الدور الإيراني طالما أنه باق ضمن السياق المرسوم له. ومن الواضح أن قواعد “حزب الله” لا تدخل ضمن هذه الرؤية، ذلك أن “إسرائيل” أبقت لنفسها الحق في ضرب قواعد هذا الحزب وفي تدمير سلاحه كلما رأت مصلحة لها في ذلك.

وفي هذا السياق، وبما أن النظام السوري أضعف من أن يستطيع التأثير على إيران في سورية، يأتي الرد الإسرائيلي كرسالة تذكيرية لإيران بأن ثمن التحرش سيكون غاليًا عليها وعلى حليفها السوري، ومن الأفضل للجميع أن تبقى المعادلة “الحرجة” على ما هي عليه، وأن الجيش الإسرائيلي لن يقبل بنشاط عسكري إيراني يهدد “إسرائيل”.

على الرغم من حالة الاستقرار على مبدأ اللا حرب واللا سلم بين “إسرائيل” من جهة، والنظام السوري وإيران من جهة ثانية، غير أن قلق “إسرائيل” بدأ يتصاعد، خاصة أنه بات للحرس الثوري الإيراني العديد من القواعد العسكرية والمطارات في سورية، ومصانع للأسلحة ومخازن لها، ومرافق لإنتاج صواريخ لـ “حزب الله”، فضلًا عن التحركات الاقتصادية (الاحتلالية) التي تفرضها إيران على الدولة السورية، وهذا يدفع “إسرائيل”، ربما، لإعادة حساباتها تجاه إيران، لكن بهدوء ومن دون تسرّع.

 

خامسًا: صراع محاور

لا شك في أن “إسرائيل” تُدرك أن ما يجري في سورية هو صراع محاور إقليمية ودولية متعددة، وحرب مصالح متشابكة ومتنافرة، وتصفية حسابات دولية أكبر حتى من “إسرائيل” وحدها، وربما عملية رسم خرائط جديدة للمنطقة ومستقبلها، لهذا كان ردّها محدودًا ومتواضعًا، لا يتناسب مع المخاوف والتهديدات الإسرائيلية.

واضح أن الإسرائيليين لا يريدون التصعيد في هذه المرحلة، كما أنهم لا يريدون فتح جبهة جديدة في الجولان السوري المحتل، خاصة أن ميليشيات “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني باتت تُسيطر على مساحات واسعة من القنيطرة التي تقع على مرمى حجر من تمركز القوات الإسرائيلية؛ وساعد الاستنفار الدولي بين العواصم الكبرى الطرفين في تحجيم التداعيات، ولا سيّما بتدخل موسكو وواشنطن لامتصاص المواجهة ووضعها في إطارها السياسي، ومنع الذهاب إلى المواجهة المفتوحة.

ما حدث بين إيران و”إسرائيل” في سورية تعبير عن احتدام الصراع بين محورين: محور روسي- إيراني من جهة، ومحور أميركي- إسرائيلي من جهة أخرى، والتحرش الإيراني بإسرائيل هو تحريض من الفريق الأول ضد الفريق الثاني، بغية إثبات الوجود، وتأكيد الحقوق المكتسبة على الرقعة السورية، وسط مخاوف من خطط أميركية تقضي بتحجيم مكاسب كل أطراف المحور الأول ومعهم النظام السوري، ومحاولة من روسيا، وتاليًا من إيران والنظام السوري، لخلط الأوراق وتغيير قواعد اللعبة، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة الشهر الماضي عن استراتيجية جديدة تجاه سورية تُفضي بالضرورة إلى تغيير النظام السياسي وتحجيم الدور الإيراني وتقليص النفوذ الاستراتيجي الروسي.

سادسًا: خاتمة

هذه القراءة، إن صحّت، تفتح الباب على مصراعيه على حرب واسعة وشرسة، حرب شبه مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، تكون فيها سورية ساحة المعركة، والسوريون أكثر المتضررين، لأنها لن تنتهي قبل أن تشهد سورية دمارًا شبه كامل.

وكما لخّص (الجيش الإسرائيلي)، فإن ما حصل كان “أقل من حرب… وأكبر من مواجهة”، وفي الغالب هذا التوصيف دقيق، ذلك أن “إسرائيل” لا تريد انتقال الحالة السورية من مناوشات إلى حروب مباشرة مع إيران، وستبقى هذه الاحتكاكات والمواجهات مضبوطة ومسيطرًا عليها، ما لم تُصرّ إيران على إشعال فتيل الألغام في سورية ضد “إسرائيل” والولايات المتحدة، حين تحين ساعة تقليص نفوذها أو إنهائه، وعليه، تبقى الحالة السورية رهنًا بالتهوّر الإيراني.

في الغالب، لا تسمح الظروف والترتيبات الدولية الحالية بتطور الأمور عسكريًا بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” من جهة، وروسيا وإيران من جهة ثانية، أو بين أي من هذه الأطراف، لكن هذا لا يعني أن الأمور انتهت هنا، بل ستبقى احتمالات المعركة موجودة دائمًا، طالما استمر الوجود الإيراني في سورية كثيفًا ومُقلقًا ومتمردًا، وطالما استمر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان، بما تمثله “الدولتان” من خطر استراتيجي ليس على الشرق الأوسط فحسب، بل والمجتمع الدولي أيضًا.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون