الشعب السوري دفع ثمن قتله سلفًا



مفارقة عجيبة ومؤلمة أن يدفع شعب كامل ثمنَ الذخائر التي يُقتل بها، بل يدفع أجور القتلة ومكافآتهم! هذا ليس مجرد تحليل أو احتمال أو باب من أبواب المبالغة والتهويل، وإنما هو حقيقة موثقة بالأرقام والتواريخ.

من كان بالغًا سن الرُشد في ثمانينيات القرن الماضي؛ يذكر تلك الأيام العصيبة التي كان يمر بها شعبنا من فقر وحاجة وشح في المواد الغذائية الأساسية: كيف كان كيلو السكر غير المُكرر يُشكّل محور تفكير العائلة لأيام، أو كيلو الرز المصري المطحون الذي أصابه العفن، بحيث لم يكن صالحًا للاستهلاك الحيواني.. السمنة أمرٌ آخر، حيث لَم يكن للمواطن العادي فرصة للحلم بها، فهي مخصصة لأحلام الطبقة العليا، وكذلك الدهان الذي منعوا استيراده، فكان المتوفر دهان (أمية) الوطني، ولكن على المواطن الوقوف في الدور للحصول على حاجته منه، أما المناديل الورقية، فلم يكن هناك سوى ماركة (كنار) وهي مفقودة، ولذلك عاد كثير من السوريين حينئذ إلى استخدام القطع القماشية.

كل ذلك كان سببه البرنامج “العبقري” لحافظ الأسد، الذي رفع في ذلك الحين شعار “التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني”؛ فكان لا بد من توفير العملة الصعبة لبرنامجه “العملاق” الذي استورد عبره كل الخردة الروسية التي تعود للحرب العالمية الثانية من عتاد وذخائر؛ ليوازن بها القنابل النووية لدى العدو الصهيوني، لا أدري إن كان أحد ما قد زرع تلك الفكرة الحمقاء في رأس حافظ الأسد أم أن “عبقريته” الفذة هي من أوصله إلى ذلك القرار الغبي، وفي الحقبة نفسها، سعى حافظ الأسد لتعزيز الترسانة الكيميائية تصنيعًا وتخزينًا.

ما يهمنا اليوم هو أن تعرف الأجيال الجديدة أن العتاد الذي يقصفهم، والذخائر التي تقتلهم كنّا نحن قد دفعنا ثمنها من قوتنا اليومي، ومن حبة دوائنا، على مدار سنين طويلة، هكذا قتلنا النظامُ في حقبة الثمانينيات ليعيد قتلنا مرةً أخرى، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ يقصف الغوطة من جبل قاسيون بقذائف المدفعية والهاون والراجمات التي دفعنا ثمنها وسندفع مستقبلًا، لأن هذا النظام ما زال يستورد وسائل الموت، من خلال تمويلها بالقروض الواجبة السداد لاحقًا.

إنها سخرية الأقدار أن نطالب الشعب السوري بالإسهام في الخزينة العامة، لأجل سداد الديون التي راكمها الأسد ثمنًا للسلاح، وأي سخرية أكثر من أن نطلب من شخصٍ ما ثمنَ الذخيرة التي قتلت عائلته أو ثمن البرميل الذي دمّر منزله؟ ربما سنجد احتجاجًا بين المواطنين السوريين، فمثلًا هناك مَن تم تدمير منزله ببرميل تكلفته مئة وخمسون دولارًا، وآخر تم تدمير منزله بغارة جوية أو بصاروخ فراغي، وهذه تكلفتها آلاف الدولارات، وسيكون هناك خلاف كذلك؛ فمن مات أبناؤه بغاز السارين سيدفع أكثر من الذي مات أبناؤه بغاز الكلور، لذا -والحال هذي- يجب على الحكومة السورية المستقبلية أن تلجأ إلى لجنة خبراء دولية، تضع أسعار الذخائر الحربية، وتكلفة موت كل شخص سوري على حدة، حتى لا يكون هناك ظلم، ويدفع مواطن ما ثمن الذخائر التي قتلت أبناء شخص آخر. ربما يكون المواطن الذي فقد عزيزًا في المعتقلات هو المحظوظ؛ لأن قتل المعتقل لا تكاليف له عدا أجور السجّان التي يقتطعها النظام اليوم من دخل المواطنين، ومن خلال طابع المجهود الحربي.

إن المقتلة السورية تُشكّل مفارقة مفجعة في تاريخ البشرية، وفصلًا أسوَد من فصول مسرح اللامعقول.


مشعل العدوي


المصدر
جيرون