ملايين الهائمين على وجوههم



تتحول الهجرات السكانية الكثيفة، بل المليونية، إلى ظاهرة مؤلمة عابرة للقارات. والحال أن تعبير «هجرات» ليس دقيقاً، ذاك أن ما نتحدث عنه نتاج فعل قسري وخارجي، لا نتيجة قرار إرادي لضحاياه. فوق هذا، هو لجوء ونزوح هرباً من الموت أو المجاعة، وليس قراراً هادئاً يُمليه البحث عن تحسين شروط الحياة عبر فرص عمل أفضل.
واليوم تتصدر سوريا وميانمار وجمهورية أفريقيا الديمقراطية وفنزويلا قائمة الدول التي تكابد هذه الظاهرة. ففي سوريا، بات نصف السكان ما بين نازح في الداخل ولاجئ إلى الخارج. وهذا عطفاً على رقم للضحايا بات يناهز المليون نسمة (وإن توقف التعداد المعلن عند نصف مليون). ويكفي للمرء أن يتابع المأساة التي تعيشها الغوطة الشرقية، التي أسمتها «الجارديان» البريطانية «سريبرينتسا الأخرى»، كي يفهم سبب اللجوء السوري. فبُعيد اندلاع الثورة قبل سبع سنوات، واجه النظام شعبه بالعنف المحض وبتدمير مرتكزات الحياة الطبيعية، الغذائية والصحية والتعليمية.
والشيء نفسه نلقاه في الكونغو الديمقراطية (علماً بأن كلمة «ديمقراطية» التي أطلقها الرئيس الراحل لوران كابيلا على البلد لا تعدو كونها امتداداً للنموذج السوفييتي في إطلاق هذه التسمية على أنظمة الحزب الواحد). لقد حكم جوزيف موبوتو، الذي سمى نفسه منذ 1971 موبوتو سيسي سيكو، الكونغو منذ 1965 فدمر الحياتين الاقتصادية والسياسية لسكانه، قبل أن يستولي كابيلا على السلطة فيكمل نهج خصمه موبوتو. وعلى هذا النحو، مع تعديلات صغرى، استمر نجله جوزيف كابيلا.
وبنتيجة هذا التراكم الاستبدادي وما وازاه من حروب أهلية وإثنية متواصلة، تضاعف عدد الذين اقتُلعوا داخل بلدهم منذ 2015 ليبلغوا الآن 4 ملايين، 428 ألفاً منهم هُجّروا في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها. وهذا فضلاً عمّن لجأوا إلى البلدان المجاورة كأوغندا التي تستضيف اليوم قرابة 240 ألفاً، وتنزانيا التي بلغ عدد اللاجئين إليها في سبتمبر الماضي 77 ألفاً. وما يفاقم المأساة الكونغولية والأفريقية أن الكونغو نفسها تستقبل لاجئين من بلدان أخرى، باتوا يعدّون 526 ألفاً، يتدفّقون من بوروندي وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
وبدورها اعتبرت الأمم المتحدة أن عملية إبادة تحصل ضد مسلمي الروهينجيا في ميانمار، إذ بفعل القمع الذي تُنزله بهم القوّات النظاميّة، فر أكثر من 600 ألف إلى بنجلادش. ولئن كانت السلطات الرسمية لا تكف عن توكيد أنها تطارد الإرهابيين وحدهم، فهذا ما تدحضه تقارير العقاب الجماعي، الذي لا تمييز فيه، للسكان.
وأكثر ما يثير الدهشة في هذه التجربة أن من يشرف عليها ليس حاكماً مستبداً كالأسد أو كابيلا. إن المشرف هو السيدة التي كانت حتى الأمس القريب أيقونة الديمقراطية وحقوق الإنسان على مستوى عالمي: أونج سان سوكي. لكن خليطاً من وعي يميز بين البشر لجهة تمتعهم بحقوق الإنسان، وخوف من الجنرالات، هو ما قد يساهم في تفسير هذه الوضعية المحيّرة لكثيرين.
على أن الحيرة تغدو أكبر، وإن اختلفت الأسباب، في فنزويلا. فمن دون حرب أهلية هناك، بات عدد اللاجئين ينافس العددين السوري والكونغولي. أما السبب فكارثة اقتصادية اجتماعية غير مسبوقة أدت إلى لجوء أكثر من 4 ملايين مواطن في العقدين الأخيرين، هم أكثر من 10 بالمئة من إجمالي السكان. ويُتوقع أن تتعاظم هذه الأرقام مع تنامي النقص في المواد الغذائية والطبية وانسداد فرص العمل.
لقد بدأ النزوح في عهد هوجو شافيز لكنه تزايد مع تسلم نيكولاس مادورو السلطة في 2013 في موازاة ارتفاع وتائر الفساد والسلطوية. هكذا بات عدد المغادرين منذ 2016 نصف مليون إنسان قصدوا كولومبيا المجاورة، والفقيرة بدورها، بحثاً عن الحياة. وهكذا تتعدّد أسباب الألم وتبقى النتيجة واحدة.

(*) كاتب لبناني


الاتحاد


المصدر
جيرون