الغوطة مرآة لانتظام عالمي جديد



لا بد لمجازر الغوطة الشرقية لكي تصبح قضية دولية من ان تحوز على نصاب رقمي معين، وإلا عُدَّت حدثاً يومياً عادياً. فالنصاب هو 500 قتيل و 150 طفلاً على الأقل. ولا بد للقتل أن يحصل بطرق إجرامية خالصة، مثل قصف طيران حربي لمدنيين ومنشأت صحية، أو إطلاق غازات سامة أو مواد كيماوية أو بيولوجية. أي لا بد للقتل أن لا يحصل بظروف قتالية أو أسباب موت طبيعية أو حالات تلوث، بل لا بد من مأساة قاسية ودرجة وحشية عالية خارجة عن مألوف الموت، ليستحق القتل الجماعي انتباه وسائل الإعلام والشفقة الإنسانية والاستنفار السياسي.
هذا راهن مرّ ومؤلم لا ولن نقبله، لكن علينا أن نفهمه. بمعنى أن تعقيد مشهد الغوطة وتداخل الفاعلين فيه، يوفر لنا معطيات حية عن الطريقة التي يدار بها عالمنا المعاصر.
التلكؤ الغربي في الحد من مأساة الغوطة لا يعتبر ازدواجية في المعايير، لجهة التفاوت بين قيمة الإنسان الغربي وغير الغربي. فالتردد الرسمي الأميركي في معالجة مسألة حيازة الأسلحة الفردية رغم تسببها بمجازر متكررة داخل الولايات المتحدة، بين أن الذي يحكم صناعة القرار السياسي ليس أولوية حياة الإنسان وأمانه (مواطناً كان أم أجنبياً) وفق تباشير الحداثة الأولى (هوبس، لوك) التي انعكست في صياغات الدستور الإميركي، إنما هو الرغبة الجامحة بالإنتاج الذي لا يتوقف، ومنطق السوق الذي حوّل العقل إلى قوة لتلبية غايات الاستهلاك. وهي رغبة تقف ورائها شبكة تحكمات عميقة ولدت لا مبالاة تجاه الإنسان نفسه مهما كانت جنسيته أو لونه أو دينه. فالغوطة ضرورة لتصدير السلاح الثقيل إلى العالم، والحاجة إلى الأمان وسيلة تحفيز لإنتاج السلاح الفردي في الداخل الأمريكي. بات الخوف وسيلة فعالة لتحفيز الإنتاج.
ما زلنا في زمن رأسمالية مسعورة لا تنشد سوى شدتها (intensity)، ولا تريد سوى نموها، ولا تهدف إلى تكثيف تدفق رأس المال. وهو وضع يفرغ كل الأشياء من معناها، ويحولها إلى مادة تبادل، أي تكميمها (quantized) وتدويرها عبر نظام تبادل، يكون فيها الإنسان عنصراً تبادلياً متجانسا وقيمة عمل يمكن قياسه، تتحول معه طاقة الإنسان ورغباته وعلاقاته وحتى معتقداته وطقوسه إلى وحدات متماثلة ومتساوية يكون المال قيمتها الأساسية. نحن أمام حياة إنسانية مأسورة بالكامل لرغبة رأسمال، جامحة وخالية من أي متعة، في أن ينتج أكثر فأكثر.
حوّلت الصناعةُ الحديثة الفكرَ إلى أداة، والإنسان إلى شيء بعد أن جردته من صفاته وخصوصيته ولم تعد تبالي بسمات ولادته وظروف نشأته الخاصة، وفككت (decoded) كامل شيفرته فجعلته أكثر توقعاً وأكثر قابلية للتحكم. ما أجبر الناس على أن يكونوا نسخات طبق الأصل جد متناسقة، تحولوا معها إلى قطيع، إلى رقم قابل أن يكمم (quantized) وخاضع لقانون حتمي تختزله المعادلة الرياضية الصارمة. نحن أمام تقنية حديثة تقوم على التحكم لأجل التحكم، وهاجسها الأول انتاج أجساد مطيعة للعمل يضمن استمرار الزيادة في الإنتاج.
ماذا يعني هذا؟
يعني أولاً أن الأخلاق المعممة على السطح في العالم، هي أقرب إلى مسرحيات، عمليات نصب تمارسها مؤسسات السلطات الدولية، الموضوعة بتصرف منظومة التقنية الصناعية الجديدة وأدوات السوق المعولم، التي يزداد تشكيلها للنظام العالمي الجديد وللحياة المؤسساتية يوما بعد يوم ، ويزداد تلاعبها بوعي الناس وإيهامهم بأن أشكال الانتظام الحالية ومنطق السوق وطرق الإنتاج وقواعد التوزيع مفضية إلى حريتهم وسعادتهم.
ويعني ثانياً أن أزمة العالم لا تحل بانتزاع نوايا حسنة واعترافات متبادلة وتوافق مشترك حول قيم مشتركة أو موقف سياسي جامع، بل في تأمين شروط إمكان القيمة الإنسانية، نضع فيها أخلاقنا بدل الخضوع لأخلاق ومعتقدات تحشرنا مع القطيع، وتكون المعرفة فيها خادمة لنا لا أن نكون خدما لها أو وسيلة تحكمٍ كاملٍ بمصائرنا وتفاصيل حياتنا.
هذا يتطلب، بدلا من البحث عن مثل عليا بديلة، التعرف إلى المؤسسات الفعلية التي تقف وراء صناع القرار، والأرضية الراسخة التي تنتج ذهنيات ومسلكيات وقيم العالم المعاصر. هذا يكون بالكشف عن أدواتها وتقنيات دعايتها واستراتيجيات إقناعها ومنطق خطابها، التي تخفي جميعها دوافع هذه المؤسسات واغراضها وتلبسها لبوساً منطقياً وأخلاقياً. القضية ليست قضية مثال أخلاقي بديل، بل قضية شبكة قوى جديدة تنتج أخلاقاً بديلة. فالأخلاق لا تقاس بخيرها وشرها، وإنما بجودة أو رداءة نظامها وجهازها ومنطق توزيعها.
ويعني ثالثاً: أن لا نتوقع تغيراً نوعياً في الموقف الغربي، الأميركي خاصة، تجاه ما يحصل في سوريا، طالما أن الصراع لم يخرج عن تحكم السوق وبنية الإنتاج العالميين. بل لعل في الإطالة الأمريكية المقصودة لهذا الصراع توريط منهِك لقوى طامحة، مثل إيران وروسيا، اعتقدت واهمة، أن أيديولوجية تعبئة رديئة أو إرث صاروخي قديم سيعوض ترهل بناها الإنتاجية وهشاشتها الإقتصادية، ويمكنها من تغيير قواعد الانتظام العالمي.

(*) كاتب لبناني


المدن


المصدر
جيرون