من خارج الصندوق: نقد وثيقة “رؤية لسورية المستقبل”



في ظل هزيمة الإرهاب السوري، بأركانه السنية والشيعية والكردية، تأتي ما سميت “رؤية لسورية المستقبل، وثيقة فكرية سياسية مشتركة بين حزب الجمهورية واللقاء الوطني الديمقراطي”، لتفتح حوارًا فكريًا/ سياسيًا يهدف إلى التوحيد، ويبتعد عن الإرهاب والفصائلية والعنصرية، ويسترشد بالوطنية السورية ذات الجذر الإنساني.

كما أنها تأتي في ظل عبثية الفصائلية المتمثلة في عدم قدرة الفصائل السورية على الحسم، وفقر وعيها، وتبعيتها الدولية والإقليمية، ومحاولات توحيدها واندماجها، ثم انحلالها وتوحيدها من جديد.

أجل، تأتي هذه الوثيقة لتفتح النقاش العام في إعادة التفكير في مستقبل سورية، استنادًا إلى ممكنات الواقع الآن، وتهدف إلى توحيد الرأي العام السوري حول مصالح ومبادئ وقيم مشتركة وعامة. والتزامًا مني بمبدأ التناصت والمتابعة والتجابه، سأناقش هذه الوثيقة نقديًا، وأدلي بدلوي من خارج الصندوق الحزبي والمعرفي، لأن من يضخم عيوبي يساعدني على أن أراها.

إشكالية السيادة الوطنية

فعليًا، ظهرت الدولة الوطنية بعد صلح وستفاليا 1648 الذي أنهى حربًا استمرت ثلاثين عامًا بين ملوك أوروبا وأمرائها وبابا الفاتيكان الكاثوليكي والبروتستانت اللوثريين والكالفنيين، وقد نتج عن هذا الصلح دول عَلمانية ذات سيادة. قبل هذا كانت الرعايا تتنقل من مكان إلى آخر بلا حدود، ولم يكن بعد قد تشكلت مواطنة ومواطنون، ودولة لها حدود وسيادة على حدودها ومواطنيها.

استنادًا إلى هذا؛ نجد أن الوثيقة تحمل في طياتها فهمًا عتيقًا لمصطلح السيادة، يرتبط بفهم معاهدة وستفاليا 1648 نفسه. فهي تتكلم عن سيادة الدولة والشعب والعَلمانية فقط، ولا تتكلم عن مبدأ الحماية أو مبدأ التدخل الإنساني الذي أتى بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليحد من تغول سيادة الدولة على شعبها أو على أحد مكونات هذا الشعب أو فئاته أو أفراده. ومثل هذا التغول من قبل سيادة الدولة هو ما تفصح عنه تجربة السوريين، خلال الأعوام السبعة المنصرمة؛ ولولا العالم؛ لكان تغول سيادة النظام السوري قد خلص على السوريين نهائيًا.

إن الوثيقة، بتشديدها على السيادة الوطنية وحق تقرير المصير بنقاء وطني طهراني، تقسم العالم إلى وطنيات ذات سيادة متصارعة، وتتناسى العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت العالم “وطنية واحدة”، والمواطنةَ حالةً افتراضية وتداولية، كما أنها تأتي كتعويض وتصعيد إزاء مشاريع سورية كانت متعدية الوطنية؛ أي تتعدى الوطنية، وتعتدي عليها كالقومية العربية والدولة الإسلامية والأممية الاشتراكية، أو تأتي كتصعيد إزاء حالة واقعنا ما دون الوطني كأقوام وإثنيات وطوائف وملل ونحل.

بدلالة الواقع ومن دون أوهام، يجوز لنا أن نسأل أصحاب الوثيقة عن واقع السيادة المنقوص تاريخيًا: أين سيادة الدولة في الولايات المتحدة الأميركية، وقد تلاعبت روسيا في انتخاباتها الرئاسية؟ أين مبدأ التعامل بالمثل –وهو مبدأ مفضل عند أصحاب السيادة وفي الوثيقة أيضًا- في روسيا إزاء العقوبات المفروضة عليها أميركيًا وأوروبيًا؟ أين تقرير المصير في استفتاء كردستان الأخير؟ أين سيادة الشعب الياباني في تحجيم جيشه؟ أين سيادة إيران في إقامة مفاعل نووي؟ بالطبع ثمة تفاضل بالسيادة بين دولة وأخرى، ولكن ليس ثمة سيادة مثالية ونقية وطهرانية، وبالتالي علينا ممارسة سيادتنا المنقوصة بالاحتكاك بسيادة الآخرين دائمًا.

والحق يقال: إن عالمنا الآن يقوم على التفاوت والاختلاف وعلى علاقات القوة والتدخل، كما يقوم على التعاون البناء المرن، ولا يقوم على السيادة والحياد وحق تقرير المصير. وكفانا أحلام يقظة رومانسية.

إن السيادة منقوصة دائمًا، وهذا النقص يحمل دعوة لملء النقص باستمرار. وكذلك السيادة الوطنية السورية منقوصة، منذ تشكيلها بعد الحرب العالمية الأولى والثورة العربية حتى الآن. وما زلنا نبحث في السيادة الوطنية بوصفها شيئًا غائبًا علينا بعثه وإحياؤه وإيقاظه، لا بوصفها شيئًا حاضرًا بواقعية علينا تحسينه تدريجيًا.

جميعنا يذكر السيادة السورية المنقوصة، وكيف بايع السوريون فيصل بن الشريف حسين ملكًا على سورية، وهو غير سوري أو من الحجاز، وكيف تنازل السوريون عن سورية لعبد الناصر من أجل الوحدة، وكيف تخترق “إسرائيل” وإيران وتركيا وروسيا وأميركا سيادة سورية باستمرار، وكيف تتبع فصائلنا وسياسينا وطنيات أخرى الآن.

علينا قبول المبدأين معًا كمبدئين مرنين في حالة تراكب: مبدأ سيادة الشعب في وطنه، ومبدأ التدخل الإنساني في شؤون هذا الشعب، إذا ما اعتدت هذه السيادة المزعومة على أفراده أو أحد مكوناته أو حتى على الشعب نفسه؛ لأن السوريين لا يعملون في الفراغ بل في العالم.

إشكالية المستقبل عمومًا ومستقبل سورية خصوصًا

ببساطة علمية وفلسفية واختبارية، أقول إن المستقبلَ، أي مستقبل هو عدمُ تعيين، فما بالك بمستقل سورية في ظل الفوضى وانعدام القطبية الدولية والتدخل الخارجي في كل كبيرة وصغيرة. وخلافًا لهذه البساطة تأتي البساطة الأيديولوجية في الوثيقة لتقول إن مستقبل سورية معين إلى ما نهاية؛ فهو حسب الوثيقة “ليس ماضي الشعوب المتقدمة، بل مستقبل هذه الشعوب نفسه”! وهو “ممكنات الحاضر فقط” من دون موازين القوى ومفاعيل الزمن والتدخل الدولي والإقليمي!

تنفض الوثيقة يدها من مستقبل سورية القريب والمتوسط، لتهتم بمستقبل سورية البعيد أو ما سمته “تدبير المصير” فقط. فمستقبل سورية القريب والمتوسط “بعيد عن كونه مهيئًا للتحول الديمقراطي المأمول… ولعل المجتمع المدني – الدولة السياسية أقرب منالًا من الديمقراطية والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية”.

إن مستقبل سورية مرتبط بموازين القوى ومفاعيل الزمن وصراع الإرادات والمشاريع ومآلات التدخل والتوافق والتحالف من جهة، وهو مستقبل احتمالي من جهة أخرى فيه جميع الاحتمالات واردة. فإذا ما توافقت إرادة السوريين مع قوتهم ومع مشروعهم في التغيير الديمقراطي بإضافة تعاون العالم معهم؛ فإن التحول من النظام الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي سيكون في المستقبل القريب. وهذا ما يجب ويمكن وضروري العمل عليه. أما إذا لم يتوافق ما سبق ذكره؛ فسيكون بعيد المنال بغض النظر عن تفريق الوثيقة بين المدنية والحضارة لإنجاز التحول الديمقراطي.

وبما أن موضوع السياسة هو حكم وأمن واستقرار شعب من الشعوب، وعلاقات هذا الشعب الداخلية بنفسه، وعلاقته بسواه من الشعوب الإقليمية والدولية؛ فإن الحديث عن “تدبير المصير”، وكأنه في الآخرة، والهروب من المستقبل القريب والمتوسط، لا ينتمي أبدًا إلى موضوع السياسة.

عمومًا. إن الوثيقة مغرمة بالعدالة على حساب الديمقراطية، مع أن الديمقراطية أوجب للسوريين من العدالة؛ فترد في الوثيقة مفردة تداول السلطة بوصفها روح الديمقراطية مرة واحدة فقط، بينما ترد فيها مفردة العدالة، بأنواعها الإجرائية والانتقالية والاجتماعية، عدد كبير من المرات. حتى أكاد، من باب الطرفة، تسمية “حزب الجمهورية واللقاء الديمقراطي”، بـ “حزب العدالة”. وعلينا ملاحظة أن العدالة هي حكم القاضي وتختلف عن الحق؛ لأن العدالة هي حكم القاضي الذي ليس بالضرورة أنْ يكون عادلًا فعلًا أو أنْ يكون حقًا؛ ولهذا أرى أن تأسيس العدالة على الحق أوجب من تأسيسها على المواطنة، كما فعلت الوثيقة. وهذا ينقلنا إلى دولة الحق لا الدولة العادلة أو المستبد العادل. إن الديمقراطية تدوالٌ للسلطة بالانتخابات، وهي حكم 68.24 بالمئة، حسب منحني غاوس، من الشعب لا حكم النخبة أو الشلة أو الطبقة، إنها حكم الناس العاديين لا حكم السوبرمان ولا الجنتلمان.

ترغب الوثيقة في تعميم الحقيقة التواصلية وسيادة العدالة وعدم التدخل الدولي والاعتماد على الذات الوطنية فقط، في بلد لم يقرر شعبه مصيره مرة واحدة، وفي الوقت نفسه تريد لمكون من مكوناته، هو المكون الكردي، تقرير مصيره، وكأن مصير الكرد مسألة سورية ترتبط بالعقد الاجتماعي والدستور، ولا ترتبط بإيران وتركيا والعراق وأميركا وروسيا و”إسرائيل”! إنها وثيقة تعمل في الفراغ، وهي أقرب إلى هندسة الرغبات فراغيًا، من قربها للسياسة بوصفها علاقات موضوعية، ومن قربها للفكر بوصفه مفككًا للاختلاط والتداخل والتشابه.

إشكالية العقد الاجتماعي والحرية

تعتمد فكرة العقد الاجتماعي على نظريات الحق الطبيعي، إضافة إلى تصورات عن الإنسان الطبيعي قبل أن يصبح الإنسان ابنًا للمجتمع والتاريخ والعقل.

تقول نظريات الحق الطبيعي بوجود حقوق لهذا الإنسان مولودة بولادته. وعلى هذا الإنسان التخلي عن هذه الحقوق الطبيعية لصالح الحكم المطلق أو الدولة أو “اللويثان” أو الدولة الحديثة… حتى يسترجع حقوقه الطبيعية وقد صارت حقوقًا مدنية.

وتقول التصورات عن الإنسان الطبيعي إنه شرير بالطبع، أو خيّر بالطبع، أو لا شرير ولا خيّر، بل صفحة بيضاء تملؤها التجربة. إن الإنسان بطبيعته، حسب هذه التصورات، هو قطٌ مفترس طامع بالسلطة أو حمل وديع ومسالم قد أفسدته الملكية، أو “إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، وهذا ينتج “حرب الجميع على الجميع”. ولتجنب ذلك، لجأ أصحاب الحق الطبيعي وأصحاب التصورات عن الإنسان الطبيعي إلى نظرية العقد الاجتماعي التي تفيد أن على هذه الذئاب الصغار أن تتنازل عن ذئبيتها للدولة التي هي الذئب الأكبر في مقابل الحفاظ على حياتها. وهكذا بات الحق في الحياة والموت والغذاء والأمن والاستقرار… بيد الدولة مقابل المواطنة.

من هنا، تتناول الوثيقة إشكالية الحرية وكأنها إشكالية في الطبيعة، وناتجة عن الطبيعة لا عن العمل والمعرفة والجهد الإنساني. فتقول إن ماهية الإنسان هي الحرية وكأنه خلق حرًا، واستمد حريته من الله أو من الطبيعة، وتقترب من مقولة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”. هذا خطأ معرفي، لأن الحرية ليست من الطبيعة ولا من الله ولا من الولادة، هي بنت الإنسان والمجتمع والتاريخ والعقل. للآسف، لا يولد الناس أحرارًا بل مقيدين وخاضعين وعبيدًا واتكاليين يحتاجون إلى العناية والرعاية، ويحتاجون إلى وقت طويل حتى ينضجوا ويعتمدون على ذاتهم ويتعاونون مع الآخرين.

تخفيض الحرية إلى حرية بالولادة أو حرية طبيعية أو إلهية هو تخفيض للعمل والعقل والتاريخ والإنسان والعالم. وربط الحرية بالطبيعة فكريًا وبطيران الطائر والقفص حسيًا هو وأد للحرية أساسًا.

إشكالية الاختلاف والمنهج

الاختلاف هو الحقيقة المطلقة في الوجود، ولا فرق إن كان اجتماعيًا أو أخلاقيًا أو سياسيًا… والاختلاف منتج ما بعد حداثي، وقد تم التعامل معه تاريخيًا بإحدى طريقتين: الأولى هي الطريقة الأفلاطونية التي رأت في الاختلاف مسخًا زائلًا وعائقًا أمام المثال. والثانية هي الطريقة الهيغلية التي تراه تناقضًا ينحل في تركيب جدلي صاعد من البسيط إلى المعقد. أما الطريقة الثالثة، أو ما بعد الحداثية، فهي قيد التشكل ولم تكتمل بعد؛ أي الاعتراف بالاختلاف كما هو والاعتناء بانفتاحه.

وهنا تتعايش في الوثيقة أطروحات تنتمي إلى عوالم ثلاثة في آن: الأول عالم ما قبل الحداثة المتسم بالرعوية، وهذا ما نجده في طرح الوثيقة للسيادة الوطنية النقية من دون أي نوع من التدخل مع حق تقرير المصير، كما نجده في المحافظة على الأحوال الشخصية الموروثة من مرحلة ما قبل الحداثة، مرحلة الملل والنحل والطوائف والمذاهب والرعية. الثاني عالم الحداثة المتسم بالمركزية ومركزية الذكر والمركزية الأوروبية ومركزية الدولة ومركزية رأس المال، وهذا ما نجده في طرح الوثيقة للدولة الوطنية الحرة والعادلة والعمومية والديمقراطية والجمهورية في اختلاطٍ ترادفي بين مصطلحات مختلفة، كما نجده في ربط المواطنة بالأرض لا بالدولة، فتتداخل بهذا المرحلتين بشكل هجيني. الثالث عالم ما بعد الحداثة الذي يتسم باللامركزية وبالاختلاف، وهذا ما نجده في طرح الوثيقة للاختلاف والحرية واللامركزية السياسية والإدارية.

في حين أن المطلوب من الوثيقة، بدل هذا التعايش، هو تجاوز قيم ما قبل الحداثة الرعوية، وتمثل قيم الحداثة في الدولة الوطنية وعلاقتها بالمواطنة، والتكيف مع قيم ما بعد الحداثة، ولا سيما التأسيس لواقع الاختلاف واللامركزية بوصفهما مصطلحين جديدين في التداول الفكري السياسي السوري.

وتتبنى الوثيقة المنهج الجدلي مواربةً بالرغم من تعارضه مع حقيقة الاختلاف التي تعلي الوثيقة من شأنها، في حين أن السياسي لا منهج له، لأنه يسخر جميع المناهج في خدمة مصالحه وقيمه وأحيانًا يبتكر منهجًا جديدًا يوظفه في صالحه. فالمنهج في السياسة نظّارة نرى بها مصالح الدولة العليا المستندة إلى مصالح المواطنين، ونتعرف إليها.

إشكالية الأحوال الشخصية

تتطرق الوثيقة إلى الأحوال الشخصية في موقعين:

الأول: في فقرة “المبادئ الأساسية” حيث تقول: “الاحتكام إلى القانون الوضعي لا يلغي حق الأفراد في الاحتكام إلى الأعراف والتقاليد والمرجعيات الثقافية والأخلاقية، لأن المجتمع المدني فضاء من الحرية”.

وهذا يعني أن العرفي موجود ويمكن الاحتكام إليه، والمدني بالمثل. ويختار الفرد أحدهما حسب وعيه بحجة الحرية. أوليس هذا تغول من المجتمع المدني على الدولة السياسية التي هي مملكة القوانين؟ أوليس من حق الدولة على المجتمع المدني أن يلتزم بقوانينها؟ أوليس المجتمع المدني هو من يسهل احتكاك الدولة السياسية بالمجتمع الأهلي؟

يبدو لي أن الوثيقة تخلط بين المجتمع المدني وبين المجتمع الأهلي. وأرى أن يتم التفريق بين المجتمع المدني وبين المجتمع الأهلي؛ لأن المدني هو نقابات وجمعيات وصالونات وتعاونيات وجماعات ضغط تنعقد استنادًا إلى الصفة المدنية في الأفراد، بغض النظر عن دينهم وطائفتهم ومذهبهم، أما الأهلي فهو تجمعات على أساس عائلي ومذهبي وديني وطائفي ومللي. وهنا يتبين أن الأعراف والتقاليد لا تنتمي إلى المجتمع المدني، بل تنتمي إلى المجتمع الأهلي الذي هو أقرب إلى المجتمع الطبيعي؛ لأن الانتماء فيه يكون بالولادة من دون اختيار، ويكون عمل الأهالي هو موالاة عادات المجتمع الأهلي ومناصرتها أو مواربتها وتجنبها أو تحديها بالمدنية والقوانين. فليس من المعقول، مثلًا، إذا تزوجت فتاة درزية من فتى غير درزي يحكم عليها المجتمع الأهلي بالقتل حسب عاداته وتقاليده، أنْ تبيح الوثيقة الاحتكام إلى هذه العادات والتقاليد!

الثاني: في فقرة “مرتكزات العقد الاجتماعي الجديد” البند الأخير رقم 15؛ حيث يرد فيها أن الأحوال الشخصية، كالزواج والميراث والوصاية والقوامة والإعالة… “تخضع للقانون المدني العام، مع حق الأفراد في اللجوء إلى المراجع والمؤسسات الاجتماعية والدينية…”.

وهذا يعني بقاء وضع الأحوال الشخصية كما هو عليه في مرحلة ما قبل الحداثة، أي ما قبل الدولة الوطنية أي ما قبل المواطنة. كما يعني فشل مبدأ المساواة ومبدأ العَلمانية ومبدأ العدالة في تقويض الأحوال الشخصية، ونقلها إلى أحوال حداثية ومن ثم بعد حداثية. إنها صيغة ملتبسة تساهم في تقويض مبدأ المساواة الذي طرحته الوثيقة نفسها؛ لأن مجال الأحوال الشخصية هو مجال رحب لامتحان مبدأ المساواة بين الذكور وبين الإناث في الميراث مثلًا أو في الإعالة والوصاية والقوامة. كما أن الوثيقة لا تقول بالزواج المدني الذي يتيح الزواج من خارج الطائفة الدينية أو حتى من خارج الدين نفسه. وهنا نلحظ مهادنة الوثيقة مع المجتمع بعاداته وتقاليده، بالرغم من تعارض هذه المهادنة مع مبادئ الوثيقة كالمساواة والحرية والعَلمانية، بينما نلحظ تشددًا سياسيًا في أطروحة أن أي فرد سوري يمكنه مقاضاة أي شخص أو مؤسسة ابتداء من الرئيس نزولًا. وهذا يعني أن الفرد السوري يقاضي الرئيس ولا يستطيع أن يتزوج/ تتزوج من غير طائفته/ طائفتها. ولا تستطيع الأنثى أن ترث مساواة مع الرجل، ولكنها تستطيع أن تعتلي أعلى المناصب في الدولة. مثل هذه المفارقة كان يمكن الاستغناء عنها نهائيًا أو مواجهتها بصراحة تستند إلى مبادئ الوثيقة نفسها.


شوكت غرز الدين


المصدر
جيرون