الغوطة بين العجز الدولي وعجز المعارضة



بعد عشرة أيام من القصف الهمجي ومئات الضحايا من المدنيين، وجهود مضنية للتغلب على الممانعة الروسية، وقبول تعديلاتها؛ صدر قرار مجلس الأمن رقم 2401 بتاريخ 24 شباط/ فبراير الماضي، يطالب بوقف الأعمال العسكرية في جميع أنحاء سورية، ورفع الحصار المفروض من قبل قوات النظام، عن غوطة دمشق الشرقية وبقية المناطق الأخرى المأهولة بالسكان لمدة 30 يومًا، على أن يدخل حيز التنفيذ بشكل “فوري”. كما يطلب من جميع الأطراف “اتخاذ تدابير لبناء الثقة، بما في ذلك الإفراج المبكر عن أشخاص محتجزين تعسفًا، ولا سيما النساء والأطفال”.

إلا أن روسيا، الموقعة على القرار بصفتها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، تجاهلت النص على رفع الحصار عن الغوطة لمدة ثلاثين يومًا، وبادرت بعد ثلاثة أيام من صدور القرار المذكور إلى إعلان هدنة من طرف واحد، ولمدة خمس ساعات يوميًا، دون أن توقف هي أو النظام وباقي حلفائه أعمالهم العسكرية في سورية، فالقصف وما يرافقه من قتل وتدمير ما يزال مستمرًا.

جوهر التعديل الروسي الدراماتيكي أنه أفرغ الموقف الدولي من أهدافه الإنسانية، فبدل أن يكون رفع الحصار عن الغوطة “من أجل فتح ممرات آمنة، لدخول المساعدات الإنسانية والطبية بدون عوائق، وإجلاء الجرحى والمرضى من ذوي الحالة الحرجة، وفقًا للقانون الدولي الساري”؛ تمّ تحويله وفق هدنة “الساعات الخمس” إلى مجرد “فتح معبر عند مدخل مخيم الوافدين لخروج المدنيين من الغوطة وبلداتهم”! أي بدلًا من فك الحصار وإدخال المساعدات الدولية، يصبح الهدف هو خروج السكان المدنيين، أو تهجيرهم!

هذا التبديل رأى فيه رأس النظام القابع في كرسيه، في أكبر ظهور إعلامي له مؤخرًا، بمناسبة لقائه “حسين جابري أنصاري كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة”، جوانب إيجابية أخرى، إذ “سَمحتْ بالتقدم العسكري خلال اليومين الأخيرين”، لأن “استمرار العمليات العسكرية لا يتعارض مع الهدنة”!

يبدو أن الحل العسكري أصبح يداعب مخيلة كل أطياف السلطة، حيث عبر مندوب النظام في الأمم المتحدة بشار الجعفري للمتسائلين عن مستقبل الغوطة بقوله: “نعم، ستكون حلب الثانية، وإدلب ستكون حلب الثانية أيضًا”، أي المزيد من إفراغ الجغرافيا السورية من المواطنين، في أكبر عملية تهجير قسري يعرفها العالم المعاصر، كما رفضت المستشارة بثينة شعبان في “منتدى فالداي” في روسيا القرار 2254 ومتاهات الحل السياسي، لأنهم بصدد “استكمال النصر العسكري”.

النظام ومعه الإيرانيون أعلنوا منذ البداية عدم التزامهم بوقف العمليات العسكرية في كامل سورية، وفي الغوطة تحديدًا، والتي باتت مرشحة لمعركة اقتحام وشيكة، تحت غطاء من الطيران الروسي الذي يمهد الطريق لدبلوماسيته المتوحشة، فرغم مرور عشرة أيام على صدور القرار 2401 “بالإجماع”، فإن عدد الضحايا خلال الأيام التي أعقبت صدور القرار الأممي، حتى لحظة كتابة هذه الأسطر بلغ 281 مدني، جلّهم من النساء والأطفال، دون أية أحلام ضمن حزمة بناء الثقة التي لم تكتشف موادها الأولية بعد، بخصوص “الإفراج عن المحتجزين تعسفًا، ولا سيما النساء والأطفال”.

مقابل هذا السعار العسكري، تبدو ردة الفعل الدولية في عالم آخر، فما كاد مجلس الأمن الدولي يتجاوز حالة “القلق” المعتادة، إلى درجة “الغضب”، كما جاء في مقدمة القرار الأخير، حتى سارع المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفن دوجاريك إلى التعليق على الهدنة الروسية، من دون “غضب” هذه المرة، بأن “خمس ساعات أفضل من لا شيء”، وكفى الله المجتمع الدولي شرّ ما يحدث في سورية، مع أن القرار الأممي 2401، يشير إلى أن الدول الأعضاء “ملزمة بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة بقبول قرارات المجلس وتنفيذها”.

المشكلة أن السوريين هم من يدفع ثمن العجز الدولي واستراتيجياته الغبية، دمًا وخرابًا، لأنهم بداية فشلوا بتقديم قيادة وطنية للسوريين، أو للتعبير عن مصالح سورية أو السوريين، حين استسلموا لتناقضاتهم الصغيرة، ولم يستطيعوا أن يؤطروا العمل السياسي والثوري في مواجهة النظام الذي ثار الشعب ضده، وانتظروا من المجتمع الدولي أن يُهيكل عملهم المعارض، وأن يقودوا ثورتهم ضد الديكتاتورية والفساد، متجاهلين أن كل الدول تحركها مصالحها، أولًا وأخيرًا، وليس الأخلاق والمسؤوليات الإنسانية.

توزعَ الدعم الخارجي منذ البداية على معارضات سياسية وعسكرية، ولم يسعَ، ولم يُردْ، ولم يُنتجْ معارضة سياسية أو عسكرية موحدة تنطلق من برنامج وطني، لتقود الصراع في مواجهة نظامٍ بنى مؤسساته على الولاء الشخصي له، ولاء مركزي وشخصي دون مساحة الوطن وهمومه، وبالتالي كان طرفا الصراع -وما زالا- دون المستوى الوطني لإدارة الصراع.

إشكالية المعادلة أن النظام ومؤيديه الكثر، من روسيا وإيران وحتى الميليشيات الطائفية المتعددة، نجحوا في العمل وفق استراتيجية غير وطنية، لكنها مركزية، وأداروا معاركهم ضد مجموعات مسلحة ومبعثرة هنا أو هناك، بانتماءات مناطقية وعشائرية دون أي مشروع وطني، ودون أي قرار مركزي، بل أكثر من ذلك، أن تلك الفصائل والمجموعات المسلحة لم تتوان عن الذهاب لإنجاز وتوقيع هدن محلية، أولًا باسمها كفصائل، وثانيًا بالنيابة عن مناطقها المحددة جغرافيًا، هدن وقعت مع روسيا، باعتبارها هي صاحبة القرار الملزم للنظام ولباقي أطراف الصراع، مع اليقين الكامل بأنها هي من يقود دفة الصراع في سورية، وتحديدًا في ظل استمرار العجز الدولي عن تحقيق أي تقدم، على المسار التفاوضي في جنيف لصالح السوريين.

في هذه اللحظة، قدّمت روسيا مسار أستانا الجديد للتفاوض، كبديل لمسار جنيف  الذي لم يعد يستجيب لرغباتها، وقادت إليه تلك الفصائل العسكرية، راضية كانت أم صاغرة، لتباشر دورها التفاوضي كبديل عن المستوى السياسي المعني بالأمر، والذي سبق أن اكتسب بعض الخبرات رغم ضعفه الشديد، ذهبت الفصائل لتفاوض منقادة لرغبة داعميها، دون أي فهم أو إلمام بأبجديات التفاوض، فقبلت تلك الفضائل في أستانا أن توقع اتفاقات “خفض التصعيد”، باعتبار أن الدول الثلاث الراعية لمسار أستانا التفاوضي: روسيا وإيران وتركيا، هي الضامنة لتنفيذ هذه الاتفاقات، والتي يبدو أن “جيش الإسلام” وسواه من فصائل “الهدن” المنفصلة، وفصائل أستانا التفاوضية تدفع ثمن هذه الاتفاقات، الآن في الغوطة وخارجها، فكيف يمكن أن تكون روسيا هي الضامن لاتفاقات خفض التصعيد؟ وهي من يقود عمليات التصعيد، وكيف يصبح الخصم هو الضامن أو الحكم لأي اتفاقٍ يمكن أن ينجز في سياق العملية التفاوضية.

بالعودة إلى تجربة الحرب الفيتنامية ضد الولايات المتحدة، والتي امتدت عشرين سنة، وبلغت كلفتها مليون ومئة ألف قتيل من الفيتناميين، إضافة إلى ثلاثة ملايين جريح ونحو 13 مليون لاجئ، مقابل 57,522 قتيل أميركي، كما أطلق في نهايتها سراح 153,303 جندي أميركي؛ نجد أن السوريين دفعوا خلال سبع سنوات من الصراع كلفة مقاربة لما دفعه الفيتناميون، خلال عشرين سنة من الحرب، ومع إدراكهم لاختلاف الكثير من الشروط الدولية والمحلية بين التجربتين، فإن المهم تمثل في وجود جبهة موحدة سياسيًا للفيتناميين، لها ذراع مقاتلة موحدة عسكريًا، فهل يمكن للسوريين تجاوز هذا المأزق، واستعادة مشروعهم الوطني، بقيادة سياسية تعرف أن تميز بين مصالح الوطن ومصالح الدول الخارجية، صديقة كانت أم عدوة، وتعرف كيف تُفاوض، ومتى تقول لا؟


أنور بدر


المصدر
جيرون