بين الرواية والتشكيل



بداية يمكنني أن أطرح السؤال التالي مدخلًا: هل هنالك قواسم مشتركة بين السرد والتشكيل؟ وإذا كانت هناك قواسم مشتركة؛ فما هي؟

في الإجابة عن هذا التساؤل علينا أن نبدأ أولًا، من مسألة الفن، وهو القاسم المشترك الأكبر الذي ينضوي تحت لوائه كل من الفن التشكيلي والفن الروائي. وما دمنا في دائرة الفن، فلا بأس من أن ننطلق من أن مشكلة الفن تبدأ من لحظة مغادرة الواقع إلى المتخيل. إنها اللحظة الحاسمة التي تجعل الفنان يتعامل مع الواقع تعاملًا مختلفًا عن تعامل الآخرين، حينما يباشر بتحطيمه ليعيد بناءه، وفق رؤية فنية خاصة به تخدم رؤيته الفكرية.

فأنت حينما تقرأ عملًا روائيًا مثلًا تستوقفك شخصيات وأحداث لها مرتسمات في الواقع، لكنها ليست الواقع نفسه. وإذا سألت روائيًا كيف صاغ تلك الشخصية، أو كيف ركّب ذلك الحدث؛ فلا بد أن تلقى إجابات متنوعة يمكن إجمالها في أنه أخذ من الواقع هيكلًا، وكساه من المخيلة لحمًا ودمًا، ونفخ فيه الروح فاستوى بشرًا سويًا، وأصبحت الشخصية من خلقه وإبداعه، لكنه يتعامل معها بمنتهى الحذر، وبشيء من الديمقراطية، حتى إذا ما قسا عليها وقسرها على موقف لا تريده؛ سخرت منه ومدت له لسانها، على حد تعبير شيخنا حنا مينة.

وكذلك في الفن التشكيلي؛ فحينما يبدأ الفنان تشكيل لوحته، لا أعتقد أن رؤية مكتملة تعيش في مخيلته، ويعمد إلى قولبتها في لوحةٍ ما، ساعة بدئه العمل. وإنما تحكمه الفرشاة والألوان، وربما جعلته ضربة فرشاة، في جانبٍ ما من جوانب اللوحة، يغيّر مسار اللوحة، ويتجه إلى جهة ما؛ ما كانت تخطر له على بال. إن تمرد الفرشاة والألوان يشبه إلى حد بعيد تمرد الشخصية على الروائي.

ربما وضعنا الروائي في فضاء بعيد عن الواقع الذي نعيش، وجعلنا نتمنى أن نعيشه واقعًا، كما يفعل الروائيون الذين يبشرون بالنصر الحتمي للطبقات المسحوقة، وأولئك الذين يتبنون فكرة البطل الإيجابي في أعمالهم الروائية. وكذا يفعل التشكيلي، حينما ينقلك إلى واقع متخيل من صنعه وإبداعه.

وقفت إحدى السيدات أمام لوحة في أحد المعارض. وأطالت الوقوف، فاقترب منها الفنان صاحب اللوحة، وسألها:

– ما رأيك يا سيدتي؟ فقالت:

– يا إلهي إنها رائعة! ولكن لا يوجد في الطبيعة مثل هذا الجمال.

فقال لها الفنان:

– ألا تريدين يا سيدتي أن تكون الطبيعة بهذا الجمال؟!

إذن؛ فقد وضح القصد وبانت الغاية.

ثمة أمر آخر، يتعلق بالقراءة: قراءة الرواية وقراءة اللوحة. فالفنان الحقيقي -روائيًا كان أم تشكيليًا- لا يمارس على قرائه ومشاهديه أي نوع من الاستبداد، فهو يطرح فنّه، ويترك للآخرين حرية التفكير والتفسير والقراءة. لقد سأل أحدهم المتنبي:

– ماذا تقصد بقولك “كذا” في قصيدتك “كذا”؟ فأجابه المتنبي:

– اذهب إلى ابن جني، فهو أعلم مني بشعري.

إن هذه الإحالة إلى ابن جني الناقد، تجعلنا نعتقد أن العمل الإبداعي يغدو ملكًا للقارئ، حين يطرحه المبدع للمداولة. وقد يُسأل التشكيلي السؤال نفسه، وتكون الإجابة هي نفسها، وقد لا يكتفي التشكيلي بإحالتك إلى آخر؛ إذ ربما قال لك لست مكلفًا بشرح اللوحة، افهم منها ما تريد.

إن هذا العناء في النظر إلى اللوحة أو في قراءة الرواية، يعيدنا إلى مسألة مهمة: فكما أن القارئ يحتاج إلى ثقافةٍ ما كي يتواصل مع الروائي، ويتذوق ما يقرأ، فإن قارئ اللوحة يحتاج إلى ثقافة بصرية، تمكنه من كشف مواطن الجمال ومواطن الضعف في اللوحة التي أمامه. وربما اختلف قارئ الرواية أو قارئ اللوحة مع الروائي أو التشكيلي، وفي الحقيقة فإن هذا الخلاف مشروع؛ فثمة عقد شراكة غير معلن، بين الجانبين: جانب المبدع وجانب المتلقي، يقتضي أن يقول المبدع ما يريد، وعلى المتلقي أن يستقرئ العمل، وهنا يأتي دور الثقافة التي تمكن المتلقي من استنباط رؤى، قد لا تخطر على بال الروائي أو التشكيلي في عملهما الإبداعي. وهذا لعمري هو العمل العظيم الذي يجعلك تقف أمام حشد من الدلالات، وعدد من الاحتمالات دون تمحّل، ولكنه أبدًا لا يجعلك تدور في دائرة مغلقة، أو تسير في مفازة لا تستطيع الخروج منها أبدًا.

إنني كلما قرأت عملًا سرديًا من تلك الأعمال المهمة، أخذتني الدهشة كيف استطاع هذا الروائي أن يبني عالمًا مليئًا بالحياة، قد لا يستجيب لمنطق الحياة العادية؛ ولكنه يضيف إليها ما هو أجمل وأعمق. ولو حاولت أن أحذف مشهدًا أو أنحرف بحدث من أحداث الرواية أو أغير في مسيرة أحد الأبطال؛ لأحسست بالخجل، كأنني أقف في وجه نمو الحياة نموًا طبيعيًا؟

كذلك عندما أقف أمام عمل تشكيلي من تلك الأعمال؛ فإن الدهشة نفسها تعتريني؛ إذ كيف استطاع هذا الفنان أن يضع كل شيء في موضعه، بدءًا من توزيع الألوان، مرورًا بتدرجها وتضادها وانسجامها، وليس انتهاء بتوزيع الكتل الرئيسة في جسم اللوحة، لتغدو المساحات والألوان غير قابلة لتشكل آخر. فما إن حاولت أن تفترض تغييرًا حتى تجد نفسك تحاول عبثًا.

ثمة أمر آخر يشكل قاسمًا مشتركًا بين الروائي والتشكيلي، وهو الأداة التي يتعامل بها كل منهما؛ فللروائي أدواته اللغوية وللتشكيلي أدواته اللونية. واللغة والألوان متاحة للجميع من روائيين وتشكيليين. وكما أن البراعة وحدها هي التي تمكن الروائي من أدواته اللغوية، فإن البراعة نفسها هي التي تمكن التشكيلي من أدواته اللونية. وكما أن الروائي يحاول الاجتهاد، كي يستنبط من اللغة لغة جديدة، تغادر في كثير من الأحيان دلالتها المعجمية، لتكون في خدمة السرد أو الوصف أو الحوار، فإن التشكيلي يتعامل مع الألوان بالعناء نفسه؛ إذ طالما أتعب فنان نفسه، وخلط هذا اللون مع هذا اللون مضيفًا إليه ما يخفف حدته أو ما يقوي وهجه، ليصل في نهاية الأمر إلى لون جديد من صنعه وابتكاره، يأخذ من ألوان الطيف، لكنه لا يشبه أحدها.

إن هذه القواسم المشتركة، بين الروائي والتشكيلي، تجعل كلًا منهما يبني عالمه وفق رؤية فنية خاصة به، تلتقي كلتاهما في تحطيم الواقع، وإعادة صياغته من جديد.


فوزات رزق


المصدر
جيرون