أرض دون آلهة



خلال متابعتي لما يحدث في الغوطة من قتل وتدمير وإبادة، كنت أتساءل، مثل كل المؤمنين الطيبين، بعد أن فقدوا ثقتهم بـ “ثوارهم”: متى سيُنهي الله امتحان قدرتنا على التحمل والصبر؟ ألا يكفي كل ما مرّ بالسوريين خلال هذه السنوات السبع العجاف من عذابات، حتى يتم امتحان قدرة الناس، من جديد، على الصبر؟

وتذكرت أن لا علاقة لله سبحانه وتعالى بالأمر، وإنما هو أمر “مجلس الأمن”، ذلك التنين المتوحش برؤوسه الخمسة، الذي نصب نفسه حاكمًا على العالم، واستمرأ الجلوس على عرشه، ككل طغاة العالم، ولم يجد -حتى الآن- مَن يستطيع القول له: كفاكم ولوغًا في دم السوريين ولحمهم أيها الوحوش!

يبدو أن الرغبة العالمية في التهام “حريتنا” كانت لا تُقاوم.

رأيت قبل أيام، أو ربما قبل أسابيع، في السينما الأميركية، ما يشبه هذا الدمار، وهذه الجثث المنثورة في كل مكان: جثث تناثرت حول قطار مدمّر خارج عن سكته.. لا شيء حيٌّ، حتى النباتات تم قتلها.. فتاة صغيرة، هي الناجية الوحيدة، في غابة الجثث هذه، تنوح بأغنية أشد حزنًا من منظر الجثث المحيطة بها. فقررتُ التفتيش عن الفيلم، يجب أن أراه من منظور الإبادة في الغوطة!

وجدت المسلسل الأميركي، وكان يحمل اسم (GODLESS: Une terre sans dieux)، وتم عرضه عام 2017، وتشاء الصدف أن يكون مكونًا من سبع حلقات، كعدد سنيّ ثورتنا، ويحكي قصة رجل خارج عن القانون، يقود عصابة خطيرة، مؤلفة من خمسة وثلاثين مجرمًا، فيهم كل أمراض البشرية، وكأنهم فعلًا، نسخة عن شبيحة الأسد، في دمويتهم وحبهم للقتل، والاستمتاع في تعذيب وقتل الرجال واغتصاب النساء، ونهب كل ما يقع تحت أيديهم، ومن ثم حرق البيوت بما فيها. تهاجم العصابة قطارًا ينقل مالًا، وفيه مئات المسافرين، وتكون الأوامر واضحة: يجب أن لا يبقى أحد حيًا. تتم سرقة المال من قبل شاب من أقرب المقربين إلى الزعيم، ويختفي، بعد أن يطلق النار عليه فيصيب ذراعه، ما يؤدي إلى بترها لاحقًا.

لا شيء يوقف هذه العصابة، على مدى الحلقات الست، لا يتوقف القتل الذي ينتقل من مكان إلى آخر، ومن مزرعة إلى أخرى، إلى أن تصل العصابة إلى مدينة “الجميلة”، وهذا هو اسم المدينة التي فقدت جميع رجالها، عندما قضى عليهم انفجار في المنجم الوحيد في المنطقة، وقد قامت المدينة بالقرب منه أساسًا. نساء المدينة قررن، بعد موت رجالهن، عدم الاستسلام، وعدم ترك مدينتهم؛ فبدأن التفكير في إعادة تشغيل المنجم والبحث عن عمال، وبيع منتجات المنجم إلى إحدى الشركات التي تحاول استغلال حاجتهن إلى الحماية والمال والرجال. الرجال الذين جاؤوا مع ممثل الشركة، تبيّن أنهم قتلة أيضًا ولصوص، ولكنهم أقل خطرًا من العصابة الكبيرة. يصل الخبر إلى نساء المدينة بأن العصابة الإجرامية الكبرى قادمة باتجاههم، ما يعني أن المدينة كلها مهددة؛ فتقرر النساء عدم الاستسلام وتنظيم أنفسهن لمقاومة القتلة، وخوض معركة الحياة أو الموت.

يتم توزيع السلاح الموجود على النساء، ويتخذن مواقعهن على الأسطح والنوافذ. وينضم إليهن “الشريف” الذي فقد نظره وظله، على حد تعبير طبيبه الهندي الذي أضاف: “من فقد ظله، لم يبق عنده ما يفقده”، ولكن الشريف يقاوم ويحاول استرجاع “ظله” وينجح، وكذلك النساء، فقد استطعن البرهنة أنهن محاربات، بقدر ما هن أمهات، حتى اللواتي أجبرتهن الظروف على بيع أجسادهن، لقاء رغيف الخبز وقطعة القماش، قد برهنّ أن العار الوحيد الذي لا يُمحى هو عار الخيانة والتعامل مع العدو، وعدم الدفاع عن المدينة.

موقف نساء مدينة “الجميلة” جسدته عمليًا النساء السوريات؛ إذ إنهن -رغم تعرضهن للتعذيب والاغتصاب والسجن- بقين السند الحقيقي للرجال في ثورتهم على الظلم والاستبداد، وقمن بكل الأدوار التي برهنت على قوة وأصالة المرأة السورية وعزة نفسها.

في الجانب الآخر، بين القليل من الرجال، يؤكد الشاب الذي كان عضوًا في العصابة الكبيرة، والذي برهن، بالعمل، أن ليس كل أفراد العصابة أشرارًا وقتلة، أنه كان مجبرًا على أن يكون في عصابةٍ تحميه، عندما كان طفلًا، ولكنه قاتلهم عندما كبر، ووقف إلى جانب الحق. وهذا درس أيضًا للسوريين المتحاربين، يجب التعلم منه، إذا كانوا يريدون بناء وطن جديد. صحيح أنه واحد على خمسة وثلاثين، ولكنه واحد استطاع الإطاحة بالعصابة، وقتل زعيمها.

الجانب المضيء أن أهل وسكان مدينة “الجميلة” انتصروا، بفضل عزيمتهم ونضالهم، وقدموا البرهان، من خلال مقاومتهم للقتلة والمستبدين، أن أرضهم ليست دون آلهة، وتم تتويج انتصارهم بوصول “الكاهن” الجديد، في أثناء دفن قتلاهم، الذي قام بواجبه الديني وصلى عليهم، وأصبح خادم كنيستهم وإيمانهم.

أخيرًا، هل يستطيع ثوار الغوطة وإدلب وريف حماة وحمص، في الدقائق الأخيرة من حياة الثورة، أن يقاوموا اليأس والإحباط، ويمنحوا السوريين أملًا جديدًا؟


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون