on
المثقف والنكوص المعرفي
بينما كانت صورة الطفل الحلبي الذي قضى بغارة جوية روسية، وهو شبه واقف بجوار حائط منزله عام 2016، تحمل معاني الوقوف في وجه الموت؛ كان بعض “المثقفين” يحضرون مرة مؤتمرًا للأقليات في مكان، وندوة فكرية في الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، ومؤتمرًا للأحزاب الشيوعية في موقع آخر، يناهضون الإمبريالية ويصلّون لبوتين ربّهم الجديد! وكان بعض أشباه الشعراء يكتبون عن الأنثى وعن سحر عشتار فيها! وبينما كان موت الطفل، كما الأشجار وقوفًا، كان مارسيل خليفة وغيره لا يعرفون عن أطفال سورية شيئًا، ولا عن موتهم المعلن. مات الطفل الحلبي قبل عامين، وبقي واقفًا يحرس تاريخ حلب وآثارها القديمة، واليوم يموت أطفال الغوطة، وهم مصرون على أن يحرسوا بأجسادهم الغضة ما تبقى من قيمةٍ معرفية للثقافة وحب الحياة الكريمة، لم تستطع “النخب الثقافية” حراستها أو الدفاع عنها.
مبدئيًا، كل قول في التوصيف يمتلك صفة الرأي والرأي الآخر أيضًا، النفي ونفي النفي، ولكن في سياق السؤال الرئيس في الثورة والهوية وطريقتها؛ يبدو سؤال المثقف (الشاعر والكاتب وحامل القيمة المعرفية) سؤالًا مريرًا، كونه ضرورة ذات قيمة كبرى، فحتى لا تصبح القيم المعرفية، بوصفها ثقافة مجتمع وتاريخه، في مهب الريح، كما هي مدنه وبشره، وجب تعرية تلك القشور الميتة أو الزائفة التي اعترت الثورة طوال سبع سنوات، ووضعها تحت قوس النقد، حتى لا تصبح ازدواجية المعايير معيارًا، ولا الكلمات المفرغة من معناها شركًا، يسقط فيه جيل من الشباب لا يدرك معنى وأبعاد التجيير الإعلامي والتوظيف السياسي، تحت عنوان ومعادلة “بنا نعيش“، وهي -وإن كانت مقولة حق- تشي بالنزعة الفردية والنرجسية، واعتبار الأنا فوق أي اعتبار آخر في الحياة، فيصبح أطفال سورية وموتهم الجماعي ظاهرة دون الأهواء الشخصية، وأقل من الرغبات الفردية، وتصبح الثقافة حينئذ مجرد كلمات مفرغة من محتواها.
شهد تاريخ السبع سنوات الماضية على بعض ممن يسمى “المثقف” السوري ومثله العربي، شهد عليه بالنكوص المعرفي والغرضية الموجهة، ففي خلفية اللوحة المعتمة لتوافد ثورات الربيع العربي، ثمة “نظريتان” معيقتان، إن لم تكونا مثبطتين في مساره:
الأولى: التقنية، بوصفها نظرية “مكتملة” في نظرية العلوم، من حيث بعدها المنفعي والمصلحي، وبحثها الدائم عن عناصر إحكام هيمنتها وسيطرتها على الأفراد والشعوب، بغية تحقيق مكاسبها النفعية والبراغماتية، تلك التي تتنازع مع النظرية المعرفية، والتي لا تمتلك سوى تلك القوة الناعمة، من خلال حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، غير القادرة على إحداث فرقٍ في مسار الحدث، بقدر التعامل معه من جانب إنساني وتوثيقي محض، وهو الأمر الجلي في التعامل مع الثورة السورية لليوم، في ملفات اللاجئين والمهجرين والمدن المحاصرة وجرائم الإبادة الشعبية وملفات المعتقلين والمعتقلات؛ ما أدى إلى تغول أداتي وغرضي للنفعية في استثمار موجات الربيع العربي التي شكلت نموذجًا عالميًا في بدايتها كادت تعم دول العالم؛ ما جعل سياسيي العالم يبحثون عن أدوات سيطرتهم وتحكمهم في مساراتها، من خلال تعينات الواقع المسبقة فيه، سواء تلك الأيديولوجيات الطامحة إلى السلطة أو بدائلها المختلفة، مدنيّة كانت أو علمانية أو عسكرية أو دينية أو مركبًا خليطًا معًا.
الثانية، المنظومات النكوصية، “المكتملة معرفيًا”، والمتشكلة بالماضي، وقد تجاوزتها العصرية الحداثية وثقافة عصر التنوير وثورات الربيع العربي، والتي تخلت كليًا عن مواكبة العصر، فباتت عبئًا ومعيقًا أمام روح الشعب وحركته وثورته، وتريد إثبات هويتها وحضورها من جديد، في عالم اليوم ومتغيراته، سواء كانت أيديولوجيا “ماركسية” أو “قومية” أو “إسلامية” أو إثنية متقوقعة على ذاتها “الأقلوية”، هي في الجذر ليست حالة متطرفة ذهنيًا وفقط، بل إرادوية محض، تؤسس للعنف اللفظي والكلامي، كما الفعل الإرهابي أيضًا. وقد وصفها الدكتور أحمد البرقاوي بقوله: كلّ وعي نكوصي عنفي متعصب -سواء أكان أخذ تصوراته من الدين أم من الأيديولوجيا القومية أو من الطائفية أو من أي أيديولوجيًا أخرى- هو “داعشية”.
نموذج الأيديولوجيات “الماركسية” و”القومية” والإسلامية السياسية، مضافًا إليها نموذج “العلمانية” الجاهزة غربيًا، ومفهوم “المدنية” الملتبس، التقت في مسار الثورة، على استخدام نظرية المعرفة كنفعية غرضية موجهة في عقل وظيفي مكتمل الصورة، وذلك حين توقفت عن متابعة الحدث السوري تجريبيًا، بالقياس والمحاكاة المعرفية لنموها وشكل توجهها، حينئذ انحازت المعيارية المصوبة للخطأ المعرفي، سواء كانت هذه المعيارية هي الصواب المنفعي أم الرؤية المعرفية المتتبعة لمتغيرات الواقع الفعلي، في اتجاهاتها المتعددة والمتناقضة: تضامن أيديولوجي ونسقي مع الثورة محكوم بغرضية سياسية كضرورة أولى في التغيير، اتجاه معاد للثورة محكوم بغرضية نفعية أو نكوصية معرفية، في الالتجاء للمكون المحلي الأقلوي، والنظريات الجاهزة للتوصيف، وكأن الثورة التي نُظر إليها دهرًا على يدي “المثقفين” ذاتهم هي العنب وقد غدا حصرمًا، في خرافة إيسوب، تخرج من رأس صاحبها قولا وفقط، وإلا، فهي خطأ تاريخي وجب محاربته.
تجلت النكوصية المعرفية بوضوح شديد، في انغماس وارتكاس العديد من المثقفين خلف أيديولوجياتهم الأولى، لزمن تشكلها الأول الحميمي، متخذًا موقفًا دفاعيًا تبريريًا معاديًا لكل جديد أو متشعب أو متعدد، وثوري أيضًا، متخليًا عن “كلياته” المعرفية وحلولها الشكلية والذاتوية والمفككة للمجتمع. هي البوابة ذاتها التي لم تر من حركة الشارع الشعبي سوى “انتكاسة” عن جملة المكاسب التي جناها سابقًا “المثقف”، كمثقف ذاتوي مرتبط فقط بأهوائه ورغباته ونزعته الشخصانية والنفسية المتعالية بحواملها الأيديولوجية المتردية، والمنهزمة أمام ثورة التقنية والمعلوماتية والحداثة، وذلك عندما كانت حركة الشارع مغيبة عن الفعل سابقًا، حيث كان المجتمع يقبع في عبودية السلطة وستاتيكها المقيت القاتل، فكان شعره وبعض آدابه ومقولاته المواربة شرطًا لبقائه “نجمًا” ثقافيًا! حينذاك، وكما لو كانت أيديولوجية محضة، سرعان ما تهاوت أمام انتكاسته المعرفية عن الانتصار لمظالم البشر ونزعتهم التحررية في الثورة! فكيف اليوم، وأمام حجم المظالم وتوسع رقعتها لمساحة عامة؟
في مواجهة سؤال: (أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال؟)، يقع “المثقف” في نكوصه المعرفي لتخرجه من عالم الكليات المعرفية وأدوات تجسديها واقعيًا، إلى حالة انغماسية ارتكاسية مغايرة، شبهة معرفية، فكيف تستوي وتلتقي مقولة الثابت والمتحول و”الكلية المعرفية”، عند أدونيس مثلًا، وعند منظري القومية العربية في الحرية والاشتراكية، وشيوعييها في كورس تحررهم الشخصي والجنسي ومقولات حرية المرأة، مع غرقهم في مقولة المؤامرة الكونية و”إرهاب الثورة وأسلمتها”؛ دون رؤية هول مظالمها وتهجير سكان مدنها واقتلاعهم من تاريخهم وأرضهم؟ مكتفين بالنضح من مقولات جاهزة، هي “طوطم” لغوي ليس إلا، ومصيدة ماكرة للنزعة الإنسانية الراغبة في الحياة، ولكنها في الوقت ذاته متماهية مع القمع السلطوي والأمني المفرط بالعنف كحالة عقابية سلطوية للمجتمع، من خلال ارتباط هذه الأيديولوجيات مع السلطة في نموذجها القمعي، كما يصفه فوكو “السلطة العقابية تندمج ضمن مجموعة من المؤسسات المحلية والجهوية والمادية، سواء في ما يتعلق بالتعذيب أو السجن”.
وحدهم أطفال سورية وشبابها، ومثلهم أصحاب (الخوذ البيض)، يقفون حراسًا اليوم على قيمة القيم، الإنسان والإنسانية، وهم يجسدونها قولًا وفعلًا، ويحرسون وجودها في الواقع، بينما ثمة ثلة من هرطقيي اللغة وذاتويي النزعة ونرجسيي الحياة، لا يرون في رقعة هذا الوطن المفتوح على الموت -وعلى رأسها الغوطة- سوى خريطة جوفاء من الحياة، تعكس جفاف ثقافتهم وفراغ كلماتهم.
جمال الشوفي
المصدر
جيرون