منذ الخليقة وثيابي على منشر الغسيل



أحملُ كرسيّ القشّ إلى الشرفة بأنفاس قديمة، كانت تجتاز معي الجسر إلى قلبي، حيث الكتب مستغرقة في عين الماء، تمشي في الربيع صوب مهرجان يقيمه الغجر كل عام، حول سنديانة معمرة، يقرؤون الشعر ويرقصون حتى الفجر، وقبل رحيلهم يزرعون قطعة من لحمهم في الأرض، ويطمرونها بأطراف أحذيتهم الضيقة.

منذ الخليقة وثيابي على منشر الغسيل.

هذا الصباح هو بيت فان غوغ، البيت الصغير الأصفر، أحدهم قال لي ما يشبه هذه الجملة، ولكن عن عينيّ.

السادسة صباحًا ديوك حمراء تجر بمناقيرها غرف النوم إلى أرض الكوابيس.

العصافير تحسب التمثال وسط الساحة فزّاعة حقل.

الطابق العلويّ أصيصٌ مهجور يراه الغريب صحنًا للسجائر.

تقول الحمامة إن القناص البعيد كان يربي سلحفاًة على سطح بيته.

تحيات الصباح التي أشتهيها، تأكلها فراخ العصافير.

في مكان ما تبكي طفلة، والدمية تشتهي لو كانت زهرة.

أنزع المسمار العجوز من ثقب الحائط المتهالك، وأبحث داخل الثقب عن ريشةٍ، عن رسالةٍ.

قميصي القطني فوق حبل الغسيل يصغي إلى برجه، من إذاعة جارتي، ويسألني عن الأزرار المتكسرة.

برهافة تمطر بين البيوت البعيدة.. أذوق طعم ثيابي وأرغب في البكاء.

ألوح للطائرة بكمّ فستاني، أشرب دموعي، أعيد الدمية إلى الطفلة، المسمار إلى الحائط، الرقصة إلى الغجر، والطائرة تسرع صوب الشرق.

أثبّت الملاقط في أصابع يدي، وأتلمس بها وجهي، الوحدة تشبه هذا اللحن.

تقرأُ النباتات الميّتة خطوط الفنجان، أكوّم نظراتها في زاوية واحدة، وأقبرها من جديد.

جارتي في الطابق الأرضي كانت تكره القطط، هجرَ البيت ملامحَها بعد أن صارت عجوزًا، أصبح صاحبُ البيت هو البيت، شرفةً كبيرة تمدُّ لسانها في وجه المارّة، على الطرف الأيمن تجثو كنبة عتيقة، بقماشها المتآكل تلعق ذيل قطةٍ سوداء.

أمدُّ رأسي في الهواء، رأس كلب يطلُّ من شباك صالون الحلاقة النسائي، سيارة الإسعاف تمر أمامنا مشوشةً بالأبيض والأسود، دون صوت، تخترق الشارع كبخار قطارٍ في الثلاثينيات.

البيوت التي يصفعها صوت المدفعية تفكر بالمعتقلات.

المعتقلات تحت الأرض تسمع كل يوم بكاء الشيطان.

المارّة حقائبٌ ستغادر المدينة بعد قليل، المرأة ذات الرداء الطويل تنتظر الحافلة كي تعبر، الحافلة تنتظر المرأة كي تمرّ، الطريق تغمض عينيها على الطائرة التي انخفضت للتو.

رجلٌ يصرخ على الهاتف، تسرع شتائمه إلى المقعد كي لا يسمعها أحد، أحدهم خسر صفقًة أو صديقًا أو حبيبًة، ربما كان المقعد أو الرجل، يقترب كيس أسود من قدمه ويلبسها كشبح.

أصابع مقطوعة تسدُّ ثقوب الناي، تحت تلك الغيمة، قطيع من الأغنام يسألني عن درب الحظيرة في الدخان.

مفاتيح تصطف كرتل أمام باب السجن الجديد، سلال من الفواكه وأرغفة خبز وجرائد محمولة كنعش، والسجان يلاحق ذبابةً بقبعته المهترئة، الأقفال ما زالت تلمع، عودوا ريثما أصدأ، تقول الزنزانة.

فقاعة هواء مالحٍ تدورُ حول باب المستشفى، تستلقي سيلفيا بلاث في جوفها، وخلف أذنها قرنفلة حمراء.

ستبدأ المعركة، بدأت المعركة، تجاعيد سوداء تسقط مع ضوء الشمس.

سمّاعات الهواتف تتأرجح على واجهات البنايات، أسمع صوت حبيبي يحمي شجرةً من الدهس.

أقرّب كرسي القش من الحافة، أحركُ أصابعي كي لا أخاف.

قذيفةٌ سقطت، أخفقتُ في تحديد مكانها، كانت سيارة المياه تمدّ خرطومها، وتصيح تحت بيتي.

الصبيةُ يمسحون السيارات التي تنتظر أصحابها للذهاب إلى العمل، الصبيةُ يسندون دراجاتهم الحالكة إلى أجسادهم.

يتمشى رجل بثياب نومه على الشرفة، يرقب سير عمل الصبيةِ ويقضم تفاحة، ينتبه إلى اللمبة المضاءة في السقف، لا يطفئها بل يحدق مطولًا في السماء الرمادية ويدخل بيته.

الحرائق تغلي بين الأسطح البعيدة.

برتقالة سقطت من عربة الخضار الجوالة، وتدحرجت حتى وصلت إلى عجلات سيارة مهجورة.

أرفع الصبّارة إلى الحافة، وأنبش التراب حولها بإصبعي، أقرأ رسالة كنت قد كتبتها في عيد ميلادي الحادي عشر، أنبش أعمق في التراب، أسمع صفيرًا بين الجبال، أطمر الحفرة وإصبعي، وأصغي إلى المطر.

أرخي ساقي ليعبر الوشم، تقفز سمكة حمراء على صدري، أفتح فمها وأصرخ في جوفه، أضرب الدخان المتصاعد في البعيد بحبوب المنوم العالقة داخل نظرتي.

الطائرة ترتفع والصباح لا ينمو، والأريكة تداعب بطن القطة على شرفة جارتي التي تكره القطط.

سرتي تغري العصفور بعش دافئ، فمي يتركني ويركض خلف امرأة، قرط أذني يعلق في باب المستشفى، أصدقائي يغمسون ظهورهم في الوداع، الضباب يتعرف على شاعر في الحديقة، حقول التبغ تشيّع الغرقى، والنذور، ترمي الكذبة في البئر وتذبح طائرًا.

أحمل كرسي القش، وأدخل إلى الصالون بخطوات قديمة، مشت معي فيما مضى، إلى قبر جدتي، تتبعني أعشاب بحريّة وسمفونية بيتهوفن الخامسة وحبوب الصداع المغشوشة.

تقول الحكاية على لسان اليوم: كان هناك أميرة مسجونة في حواسها، كل ليلة تحدق من نافذة قصرها إلى البحيرة المتجمدة تحت ضوء القمر، تحلم لو تسرج خيلها بعيدًا بعيدًا، خلف التلال وفي الوديان، تحاكي طيور البحيرة ونعاس البيوت وحزن القمم المثلجة، وفي يوم ممطر وعاصف، قررت الهروب برفقة صديقها الكناري، قصت جدائلها وأعطتها للقمر، فكّت عقد رقبتها المرمريّ وألبسته لوسادتها، ثم كسرت نافذتها وطارت.. ومنذ ذاك اليوم لا يعرف سكان البلدة عنها أي شيء، يقول الصيادون إنهم شاهدوا وجهها يشعُّ في قاع البحيرة، وتقول العصافير المهاجرة إنها صارت شرفة.

*اللوحة للفنان السوري طلال أبو دان


سوزان علي


المصدر
جيرون