المرأة في رواية “أرض الكلام”
10 آذار (مارس)، 2018
سرعان ما آلت أمومة البيت إلى البنت الكبيرة زينب، بعد وفاة أمها، فهي قد دأبت على تمثّل هذا الدور وإشغال الفراغ الهائل الذي خلفه غياب الأم، بمنتهى العناية والغيرية والحنان، حتى استهلكت مظاهر الأمومة الطارئة أنوثة الفتاة العانس، وحولتها إلى جسد بلا غواية ولا شهوة، كما بات يحسّ بها الجميع، ولكنّ هذا التحوّل الذي وسم شخصيتها بخسارة ما، لم يكن ليمرّ من دون أن يكتسب طباعًا، تليق بالدور الجديد أو هي إحدى ضرورات النجاح فيه، فالحضور القوي في تفاصيل البيت والأخوة جعلها المرجع الأعلى ولربما الوحيد، حتى إنّ حضورها بات يفوق المرجعية التي مثلتها أمهم الغائبة، إلى درجة أنّ أخاها الشاب كريم، بات على يقين أنّ زينب الأم البديلة “قادرة على احتضان انشغالاته بروح الأم” الكاملة، من دون حاجة إلى أي ادعاء ولا تمثيل، ونظرًا إلى مدى نجاحها في إخراج فكرة الزواج من مجال ومدى تفكيرها، واستبدال الزوج بهموم البيت، التي ملأت وقت فراغها، شعرت بمتعة الحركة الدائمة وبمدى الاهتمام والرعاية للدار كلها.
لقد أكسبها هذا الشعور بجسامة المسؤولية شيئًا من الصرامة، وهو ما أدركه وأحس به والدها عبود الحلاق، فصار يهدّئ زبائنه الصغار باسمها، وغدا ترديده لعبارته الحاسمة القاطعة “اجت زينب” كافيًا ليصمتوا مذعورين، مأخوذين بميتافيزيقيا هذا اللغز الخفي، وهي كانت قد أعلنت، بعد إدراكها بالتجربة الحية، بما لنبرة صوتها القاسية من قوة الإيهام وبعث الخوف، “أنها مستعدة لإعارته صوتها، من أجل تثبيت أولئك المشاغبين الجبناء من الأولاد”.
يبدو لي أن الكاتب ممدوح عزام، قد نحت بعناية صورة لامرأة متفردة أصيلة، أخذت تصعّد غرائزها وتنحيها، تحت تأثير غريزة الأمومة، التي تملّكتها ووفرت لها شعورًا متوازنًا وسلوكًا تعويضيًا، غطّى بفيضه وتدفق عاطفته غرائز أصيلة أخرى لفتاة ناضجة، يضجّ جسدها بالجنس والطاقة والحيوية، وعلى الرغم من كون هذه الحالة الإنسانية المتفردة، لكائن افتراضي، ليست نموذجًا قابلًا للتعميم، ولم يقصد كاتبها ذلك، فإنها، عبر أبعادها الواقعية، فتحت بعدًا إشاريًا لمدى تأثير الشعور بالمسؤولية في سلوك الفرد، ولا سيما إذا أسندت إليه بالمصادفة وبحكم الضرورة.
والسؤال الأهم هنا: هل لهذه الشخصية الافتراضية (زينب) علاقة بالوعي الذكوري، بوصفه وعيًا مستبطنًا بالأصالة، وقابلًا للتجلي والظهور بأشكال ومظاهر متعددة ومتباينة؟
أعتقد أن مفاعيل هذا الوعي الذكوري قد تكرّست في نموذجه الافتراضي (زينب)، ليس لكونها الكائن الأكثر قابلية من جنس الرجل، للتماهي مع كلية هذا الوعي وتفريعه وتعميمه فقط، بل لأنه قد بدأ يأخذ مظهرًا سياديًا تعويضيًا، مقنّعًا تارة، وعاريًا من أي قناع تارة أخرى، ومن هنا نحكم بأنّ الوعي الذكوري المعكوس عند زينب، وقد تغذّى بعاطفة جارفة استدعت روح الأمومة وغريزتها، راح يفرض حضوره القوي، حتى على الوالد عبدو الذي وجد فيها تلك الرهبة والمهابة، وراح يستثمر في هذه الحالة وتكريسها كيتيوبيا إيهامية ذات أبعاد ميتافيزيقية، تخالط صورة السلطة في المخيال الشعبي التقليدي.
ولكن ثمة صورة مكملة لشخصية (زينب) الوحادية، ظهرت في شخصية (لؤلؤة) المجبولة من غريزة الأمومة وشهوة الأنثى ودافع التملك، حيث تُظهر لؤلؤة، بتصرفاتها وسلوكها، ميلًا جارفًا إلى أمومة مفقودة، لم تتحقق لها مع زوجها المتوفى، لذا نراها مندفعة برغبة تعويضية هائلة، عن خسارتها لهذا الجانب الأساسي، إلى تعاطفها وشفقتها على الطلاب الصغار، وفي تشبثها بوحدتها ودفاعها المستميت عنها، ورغبتها القوية في الاستحواذ على هؤلاء الطلاب الصغار، والاستفراد برعايتهم، ولأجلهم راحت تتحدى إرادة أشقائها وترفض العودة إلى بيت أهلها، بسبب “ذعرها من خفة الحياة، بعيدًا عن صغارها التلاميذ. فخاضت معركتها بإصرار شجرة، ورفضت الحلول التصالحية”، كما رفضت عرض شقيقها نصر الدين، أن يكون الحامي للمنزل الكبير، ليقينها أن هبوطه الذي “يدعي شكل خيمة”، لم يكن سوى حيلة ماكرة للاستيلاء على الملكية، فضلًا عن تخريبه لطقوس العناية الأمومية… ولم تستطع الصمود، حين رأت كيف هتف الصغيران معًا لهداياها، فغطت وجهها بكفيها، وهي تكاد تختنق، ثمّ بدأت تبكي بصمت”.
هكذا تتحاور الأمومة والأنوثة، وتتجادلان، وقد تتبادلان المواقع، بوصفهما مظهرين متلازمين في شخصية المرأة، ينتهيان في المجتمع الذكوري، إلى خسارة متعددة الأوجه، تنعكس آثارها السلبية على الذكور والإناث على حد سواء، فخسارة كريم للحبيبة محمودة أوقعته في فراغ رهيب، وكسا صوته بنبرة فاجعة، جعلته أقرب إلى جوح الذئاب.
ولكن الخسارة النهائية والأهم تمثلت بخسارة زينب الأخت، التي مثلت قيم العائلة والمجتمع والشخصية المعول عليها، والتي شكلت سندًا لمسار الحرية ممثلة بالمعلم توفيق، وبكريم الشاب، وكانت جسر التواصل الذي انكسر بين جيلين، أو بين شقي المجتمع الذكوري والأنثوي.
بهذه الهزيمة وهذا الاستسلام، تكتمل حلقات الخسارة والانكسار، في خطها الإنساني الخالص، حيث المرأة -في المحصلة- لا تخرج عن الاستحواذ الاجتماعي والقبلي، أو هي من جملة المتاع المتنافس عليه والمضحى به، أو هي طاقة بشرية احتياطية، تستلب، وتهجر، خلف إغواء المدن ومتطلبات العيش، في واقع فقر شرس لا يرحم، وهي من جانب آخر -وفقًا لمجريات السرد هنا- حلم بالحرية، أجهضه طغيان المجتمع الذكوري/ الأهلي، وهشاشة الأحزاب والقوى والشخصيات الحاملة لمشروع التحرر والمدافعة عنه. إنها الأنوثة/ الأمومة، المضحى بها على مذبح المصالح المادية والمعنوية، التي تكتمل صورتها في رواية (أرض الكلام)، بوصفها حلمًا بالحب، وشهوة وطاقة إنتاجية، ومدبرة مضحية، وأمومة مرهقة بالعوز والاغتراب، وبوصفها موضوعًا ذكوريًا بامتياز، وفي كلّ تلك الصور المتباينة، تغيّب المرأة الإنسان، رغم تعبيرها عن حضور عاطفي طاغ في مجتمعها.
جبر الشوفي
[sociallocker]
جيرون