التقسيم ليس خيار الشعب السوري



في آخر إشارة تحذير من خطر تقسيم سورية، جاءت تصريحات لافروف والدبلوماسيين الروس، حين ذهبوا إلى تحميل واشنطن المسؤولية عن التقسيم، إذا استمرت ممارساتها على الأرض السورية على هذا النحو (عندما تم قصف الطيران الأميركي لقافلة المرتزقة الروس والميليشيات الإيرانية في محافظة دير الزور)، والمفارقة أن أجندة موسكو، في انخراطها بالصراع ضد الشعب السوري، هي التي انطوت على تحريك النزعات التقسيمية والانفصالية، في بداية دخول قواتها الحرب إلى جانب النظام، حين جرى تداول فكرة “سورية المفيدة”، ثم في توددهم لما يدعى “قوات حماية الشعب الكردي”، التي لا تخفي توجهها للتقسيم، خلف عنوان (الكونفدرالية)، والأخطر-وهنا ليس في الأمر زلة لسان- حين مضت روسيا لتمكن نفسها سياسيًا من “ملف الأزمة السورية”، وأعلنت عن “تمثيل كل الشعوب السورية”، في مؤتمر سوتشي.

لكن، منذ احتدام الصراع بين السلطة والشعب، وتقهقر قوات الطاغية عن رقعة كبيرة من أراضي البلاد، وانكشاف عجز السلطة عن الاستمرار في السيطرة؛ ارتفعت أصوات من واشنطن وتل أبيب؛ منها ما يحذر من التقسيم، كما جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري بقوله: “ربما يفوت الأوان لإنقاذ سورية موحدة، إذا انتظرنا فترة أطول”. ومنها من اعتقد أن “التقسيم هو الحل الوحيد الممكن”، وهو ما جاء على لسان (رام بن باراك) مدير عام وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، والملاحظ أن توقيت هذه التصريحات تزامن مع تدهور وضع السلطة الدكتاتورية.

الواضح في كل هذه المداولات والتصريحات والأجندات، أن الشعب السوري الذي تعنيه سورية، حاضرًا ومستقبلًا، لم تراود قواه ولا لحظة واحدة مشاريع وتوجهات من هذا القبيل، سواء أكان ذلك في مراحل صعود الثورة وانتصاراتها، أو عندما استطاع التحالف الفاشي الإجرامي: (روسيا وإيران والميليشيات الطائفية والنظام) دحر الثورة في أكثر من موقع. فالشعار الأصيل: واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد، بقي لسان حال القوى المعبرة عن أهداف الثورة الحقيقية.

أما سلطة بشار ومريديها وأدواتها، خلال سعيهم لإفشال الثورة، بكافة السبل الخسيسة والمتوحشة، فقد طبّلوا وزمروا وزعقوا محذرين من الخطر الذي تشكله الثورة على “الأقليات”، ومن يدقق في هذا التحذير؛ فسيرى أنه ينطوي على زرع بذور التقسيم بين أبناء الشعب الواحد، على اختلاف هوياتهم الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية. ورغم ما قامت به (داعش) و(القاعدة) والقوى الإرهابية باسم الدين، واستثمار السلطة الفاشية له، لم يبايع الشعب السوري هذه القوى، بل تصدى لها، ودفع ثمنًا كبيرًا لوضع الحدود الفاصلة بينه وبين هذه القوى (الرقة، إدلب، حوران، دير الزور) وسواها من مدن وبلدات وقرى، وأوغلت القوى الإرهابية بدماء من يُطلق عليهم “البيئة الحاضنة للإرهاب”، ولم تسفك دماء الموصوفين “أقليات”، إلا ما ندر.

ما أردت قوله هنا، أن أبناء الشعب الذين خرجوا من أجل نيل الحرية لم تراودهم، في كل المراحل، أن تتقسم سورية. كانت الحرية هدفهم، والخلاص من الدكتاتور المجرم وعصابته طريقهم، لا شيء آخر يدعون له يستهدف السوريين، حتى الموالين لسلطة الاستبداد، وعليه؛ فإن التقسيم هو بضاعة السلطة، لتحمي نفسها باسم حماية الأقليات، ولو على جزء من أرض البلاد. وها هي القوى الأجنبية، التي استدعاها النظام، أو سهل لها اجتياح الأراضي السورية، تقيم تقسيمًا أمنيًا عسكريًا وجغرافيًا، في سياق تنفيذ أجنداتها بالضد من مصالح الشعب السوري، فباستثناء سلطة الطاغية، التي تنشد البقاء بأي ثمن، لا أحد في سورية يفكر بتقسيم البلاد، أو القبول بتمزيقها جغرافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، ولأسباب مختلفة، يوجد جزء من القيادات الكردية التي هي حليف للنظام، تتداول -علنًا- مشروعًا سياسيًا خاصًا، بما تدعوه “المصالح القومية للأكراد”، وهي الأخرى تستند إلى القوى الخارجية، أميركا وروسيا، وحتى إيران، وتبدي استعدادها لقبول العون والنجدة من أي جهة.

بالقوة وبالإكراه، يمكن للقوى الدولية أن تفرض واقعًا تقسيميًا، لكنها لا تستطيع أن تعطيه الشرعية، وهو سيبقى حالة مؤقتة، وهذا هو شأن الوجودين الروسي والأميركي، في شرق وغرب وجنوب البلاد. إلا أن هذا الواقع المفروض لا يمكن أن يشبه وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا وضع كوريا في نهاية الحرب 1953، ولا واقع الاتحاد اليوغوسلافي الذي تمزق إلى عناصره الإثنية والقومية الأولى، بموافقة الكتل البشرية في الدول الجديدة. في سورية، الأمر يختلف تمامًا؛ فما يدعى “الأكثرية” متداخلة جغرافيًا واقتصاديًا مع بقية فئات الشعب السوري، والبناء السياسي المستند إليها، وإلى بقية فئات المجتمع (التنظيمات والأحزاب والتشكيلات المعارضة)، على ضعفها؛ فهي لا تطرح أجندات ضيقة وانفصالية تقسيمية. وإذا كان الواقع الموضوعي لأكثرية الشعب لا يتوفر عن مقومات لتقسيم البلاد، فعندئذ لن تكون احتلالات الدول الكبرى والإقليمية، لأجزاء كبيرة من البلاد، أساسًا كافيًا لقبول الوضع الحالي على الأراضي السورية، التمزق هو سيد الموقف، ولا أفق قريبًا لتجاوز واقع الحال، ولا يعني ذلك حالة موافقة على تقسيم سياسي بين أبناء الشعب السوري، ولا مخرج من هذه الأوضاع، إذا لم تنته السيطرات الخارجية، والتغلغل الاستيطاني الفارسي بغطاء مذهبي. وبقاء النظام الهزيل بإجرامه ووحشيته هو ركيزة التمزق القسري العنيف الذي يجتاح عموم البلاد. ولا مجال لشرعنة هذا التمزق والتفتت، ولا لقبول السوريين بتقسيم البلاد، الذي هو أكثر من قسمة ثنائية، وفق مخيلة أصحاب الأجندات الخارجية، ومعهم بعض الفئات التي لن تجد سندًا “لدويلاتها” إلا من “إسرائيل”.


مصطفى الولي


المصدر
جيرون