السرد والبحر



حضر البحر في مخيال الإنسان، منذ بدايات وعيه بالعالم من حوله، وخصوصًا أن إدراكه ووعيه كان حسيًا يتَّكئ على مشاهداتِه وانفعالاتِه المباشرة، وهو يتفحَّص مظاهرَ الطبيعةِ من حوله، وقد تعدَّى الأمر حضور البحر في الأساطير والحكايا والعلاقات التجارية وقصص البحَّارة وأحوالهم؛ إذ كان للبحر نسقٌ دينيٌّ يتَّصل بالطقوس الدينية، ومن ذلك آلهة البحر عند الكنعانيين “يم”، وهي الآلهة التي انتصر عليها “بعل”، ولدى الإغريق إله البحر بوسيدون، فضلًا عن قصة الطوفان التي حضرت في مختلف الميثولوجيات والأدبيات للحضارات المختلفة، فقد وهبت الآلهة بطل الطوفان السومري زيزسودرا الحياة الأبدية، ووضعته في جنة السومريين دلمون (البحرين)، واتكأت أسطورة الطوفان عند البابليين على طوفان السومريين، ولكنها أوسع منها، وقد مثَّل البحر عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا في تكوين الملاحم القديمة كملحمة جلجامش، والأدويسة والإلياذة وسواها.

لعب الموقع الجغرافي المتميز لشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام، في قلب العالم القديم، دورًا محوريًا، بوصفه الوسيط التجاري بين مختلف القارات، وقد قام العرب بأعمال التبادل التجاري قبل الإسلام بعدة قرون؛ إذ كان عرب الشمال، وأهل مكة على وجه الخصوص، يقودون حركة التجارة من اليمن جنوبًا إلى الشام شمالًا، ونشطوا في الصيد على الساحل المُطلِّ على البحر الأحمر، وأقاموا فيه نواة مدينة جدَّة التي تعود تسميتها إلى جدة بن جرم بن ريان، الذي يعود إلى معد بن عدنان، ونقل عرب الجنوب تجارة الهند وأفريقيا عبر المحيط الهندي والخليج العربي إلى الشام ومصر، وكانوا -فضلًا عن ذلك- ملاحين ماهرين، كما تمرَّسوا في صناعة السفن ومعرفة الطرق البحرية والرياح الموسمية، التي ظلت سرًا من أسرار الملاحة العربية إلى أن اكتشفها اليوناني هيالوسي، في القرن الأول الميلادي، وقد أثر موقع الجزيرة العربية الجغرافي في الفكر والثقافة والأدب في التراث العربي، فقد انعكست صورة البحر وامتدت أمواجه إلى قصائد شعراء الجاهلية، مثل امرئ القيس والنابغة الذبياني وطرفة والأعشى، كما حضر في السرد العجائبي في ألف ليلة وليلة ومغامرات السندباد، التي تطاول فيها البحر ليحتوي معظم أحداث الحكايا والأسفار، كما تم توظيف مصطلحات تتضمن معنى البحر، في علوم اللغة والتفسير مثل: كلمة القاموس التي تعني البحر العظيم، والبحر المحيط في التفسير، وكتاب سيبويه الذي سُمِّيَ بحرًا تعظيمًا له ولمؤلفه، فضلًا عن أدب البحر، كما في كتاب مروج الذهب للمسعودي ورحلات ابن بطوطة ورحلة ابن فضلان وغيرها.

يمتلك البحر في السرد الروائي وظيفة تمثيلية، كونه أحد أهم عناصر البناء الفني، كما أن استثمار الفضاء البحري في السرد يمنحه طاقاتٍ فنيةً وتخييليةً، تجعلنا ننظر إليه بوصفه فضاءً فاعلًا ومؤسِّسًا للرؤية السردية، وقد لفت صدور رواية ملفل (موبي ديك) الأنظار إلى أهمية البحر في السرد الروائي، ومن ورائه في المتخيل الشعبي والعالمي، فضلًا عن البعد الثقافي الذي يرى البحر جسرًا للتواصل الحضاري، ومسرحًا لتحقيق طموحات الإنسان التي تمتد كصفحات الماء على وجه البحر.

وتتالت الروايات التي اتخذت من البحر فضاءً تتركَّب فيه المادة الحكائية، وتستمد منه الشخصيات قدرتها على الحركة والتعبير، داخل المتن السردي. وقد كان لـ ملفل مقدرةٌ كبيرةٌ على إنتاج روايات بحرية تمتلك رؤية عميقة تداني البحر في عمقه، وتقوم على بناءٍ فنيٍّ رصين، وعالم حكائي ينهض على تجارب الإنسان وممارساته وخبراته في الملاحة والصيد، فضلًا عن أبطاله الملحميين، بما يمتلكونه من قوة وإصرار ورغبة في تحقيق الذات عبر ملامح الصراع والتحدي التي تعكسها رواياته، ولا سيما أن توظيفه للفضاء البحري جعل روايته علامة فارقة في أدب البحر، ولا أدلَّ على ذلك من رواياته البحرية (أربع سنوات من الإقامة بين أهالي وادٍ بجزيرة المركنز1846) و(أومو 1847) والحرف القرمزي 1850) و(موبي ديك) 1851، و(بيير 1852). ولا ننسى أن نشير إلى رائعة همنغواي (الشيخ والبحر)، ورواية (زوربا) لـ كازنتراكي، و(اجتياح البحر) و(عشرون فرسخًا تحت البحر) لـ جول فيرن، و(كاتدرائية البحر) لـ فالكونس، وغيرها من الروايات.

ولا يختلف الأمر كثيرًا في المدونة السردية العربية في استئثار البحر بمساحات واسعة من المتون السردية، ونشير هنا إلى روايات حنا مينة الذي جعل البحر فضاءً رئيسًا لمعظم رواياته، ومنها: (المصابيح الزرق) 1954، و(الشراع والعاصفة) 1966، و(الياطر) 1975، و(حكايا بحار) 1981، و(الدقل) 1982، و(القطاف) 1985، و(نهاية رجل شجاع) 1989، و(البحر والسفينة وهي) 1999، كما حضر البحر في روايات جبرا إبراهيم جبرا، ولا سيما روايته (صيادون في شارع ضيق) 1960 و(السفينة) 1970، وتتالى حضور البحر في الراوية العربية، مثل: (سفينة حنان إلى القمر) 1962 ليلى بعلبكي من لبنان، و(سفينة الموتى) 1969 لإبراهيم الناصر الحميدان من السعودية، و(أمواج ولا شاطئ) 1973 ثروت أباظة من مصر، و(البحر ينشر ألوانه) 1975 لمحمد صالح الجابري من تونس، و(الأفعى والبحر) 1979 لمحمد زفزاف من المغرب، و(وليمة لأعشاب البحر) 1983 لحيدر حيدر من سورية، و(بوابة البحر) 1985 لرياض الأسدي من العراق، و(مدن الملح والرماد) 1985 لعبد الرحمن منيف من السعودية، و(نتوءات البحر) 1986 لعزمي بو خالفة من الجزائر، و(أحلام البحر القديمة) 1993 لشعاع خليفة من قطر، و(عطش البحر) 1994 لرجب أبو سرية من فلسطين، و(نشيد البحر) 1994 لعبد الله خليفة من البحرين، و(البحريات) 2004 لأميمة خميس من السعودية، وغيرها من الروايات.

تؤكد الإشارة السابقة إلى الروايات التي اتخذت من البحر فضاء لخلق عالمها الحكائي، حضور البحر بشكل واسع ومكثَّف في المتن الروائي العربي، وقد توزعت الروايات على مختلف أنحاء الوطن العربي، من المغرب العربي إلى بلاد الشام إلى مصر، وصولًا إلى الخليج العربي، وهذا الأمر يشي بنزوع السرد العربي نحو الانفتاح على ثيمات ورموز سردية أكثر دينامية، تسهم في صياغة الرؤية وتقديمها.


إبراهيم الشبلي


المصدر
جيرون