الشعب هو الملاذ الوحيد



الشعب هو مفهوم سياسي واجتماعي، يعدّ الركن الرئيس في مفهوم الدولة. وهو مجموعة من الأفراد تربطهم علاقات وعي ومصالح مشتركة، ويتمتعون بحقوق سياسية واقتصادية وثقافية يكفلها قانون ومؤسسات الدولة. في الدولة الديمقراطية، الشعب هو مصدر كل السلطات من خلال ممارسته حقوقه السياسية، بينما في الدولة الاستبدادية أو الشمولية، السلطة تصادر حقوق الشعب وتقيدها بمصالحها، فتحد من تأثيره في الدولة.

من الناحية العملية، الشعب ليس مجرد كتلة بشرية لها حقوق، إنما هو جملة خيارات تختلف، زمكانيًا، وحسب كل حالة ونوعيتها وملابساتها، وإذا كان مفهوم الشعب مستقرًا، نظريًا وعمليًا، في الدولة الديمقراطية؛ فقد يبدو في الدولة الشمولية فضفاضًا نظريًا، لكنه محدد عمليًا. ففي الدولة الديمقراطية إذا حدث نزاع أو خلاف في السلطة أو عليها؛ كان الشعب هو الملاذ الوحيد لحسم النزاع بتغيير السلطة أو بقائها (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو التحول من نظام برلماني إلى رئاسي كفرنسا، أو تركيا أو تغيير الحكومات)، أما في الدولة الشمولية، فإن الشعب تتحدد وظيفته في خياراته الكبرى بالعلاقة مع السلطة (احتجاج، اعتصام، انتفاضة، ثورة…) تنتهي بإصلاح أو تغيير السلطة، أو حيال القضايا المصيرية التي تهدد وجود الدولة والمجتمع (عدوان خارجي، أزمة، كارثة، محنة).

ما يميز الحالة السورية الراهنة عن الحالات التي شهدها التاريخ الحديث، القريب والبعيد، على الأقل هو تفردها. فالشعب السوري غيبه الاستبداد عقودًا طويلة عن الفعل والتأثير الوطنيين، ونابت عنه السلطة في جميع خيارات الدولة، في السلم وفي الحرب وفي جميع المناحي، كما مارست عليه جميع وسائل الترغيب (إفساد) والترهيب (قمع) والتفكيك (تمييز، إقصاء، إلغاء) حتى بدا مفهوم الشعب فضفاضًا، نظريًا وعمليًا، وربما لا معنى له سياسيًا أو اجتماعيًا. إلا أن التناقض بين السلطة وجزء كبير من الكتلة البشرية التي تحكمها كان يولد ديناميات اجتماعية دفينة، ترجمت مفهوم الشعب عمليًا كخيارات ثورية، تحددت في سياق تغول السلطة عليه، ولم يكن جنوح هذه الخيارات عن خط سيرها الرئيس سوى نتيجة للصراع المسلح، بين السلطة والمعارضة الإسلاموية المسلحة الذي انتهى إلى محنة وطنية.

إن هذه المحنة الوطنية، وتداعياتها الداخلية على مكونات الدولة السورية (الأرض والشعب والسلطة)، دخلت حالة استعصاء نتيجة ارتهان السلطة والمعارضة للخارج، وتصارع المصالح الدولية والإقليمية، وربط الحالة السورية بقضايا أخرى (الإرهاب، أوكرانيا والقرم، الدرع الصاروخية، النفط والغاز، الطموحات الروسية والإيرانية..). ولا يمكن الخروج من هذه الحالة سوى بالعودة السريعة، قبل فوات الأوان، إلى الملاذ الوحيد الذي يمكن أن ينتج حالة وطنية مستديمة. وهذا الملاذ هو الشعب السوري، كمفهوم خيارات لا ككتلة بشرية، خيارات تتحدد نهائيًا في سياق حوار وطني جامع، يقطع الطريق على أي أوهام بانتصار حاسم تتلبس أي طرف داخلي، ينظر إلى الشعب السوري ككتلة بشرية واحدة وفي جيبه وحده، على الطرف الآخر، وهو لا يملك بمفرده لا الوسيلة ولا القدرة إلا إذا سانده مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه الخمس الدائمين وليس هذا العضو أو ذاك أو هذه الدولة الإقليمية أو تلك، وهذا غير ممكن في ظل تناقض المصالح الدولية المحورية. إن استمرار مثل هذه الأوهام له تبعات خطيرة تزيد الطين بلة، وتؤخر الحل السياسي الذي يوقف شلال الدماء والتدمير والتهجير، وتزيد من عبث الخارج في الداخل السوري وتطيل عمره.

إن الشعب السوري جملة خيارات، وليس كتلة واحدة، ودعوة البعض إلى الرجوع إليه بواسطة الانتخابات، وهو في حالة تشظ وتخبط وتشتت وربما ضياع، هي دعوة حق يراد بها باطل، ولا يمكن أن تساهم جديًا في الوقوف على خيارته، وبالتالي للوقوف على هذه الخيارات لا مفر من حوار وطني جامع، ينتج حكومة وحدة وطنية واسعة التمثيل، تنتقل بالبلاد من حالة العنف والتشرذم إلى حالة السلم والوحدة الوطنية، تأخذ الجميع إلى عملية شفافة ومسؤولة ونزيهة لإعادة بناء الدولة من جديد على أساس ديمقراطي، يتيح للجميع فرصًا متساوية للمشاركة في إدارة الدولة.. وإلا؛ فإن كل ما يجري أمام ناظرينا ما هو إلا مناكفة من قبيل المزايدة، التي مَل منها الشعب السوري كتلة وخيارات، ووحده يتحمل تبعاتها المجنونة.

غير أن اللجوء إلى الشعب باعتباره جملة خيارات -وهو يتألف من مكونات سياسية وثقافية ومدنية وأهلية وعرقية ودينية ومذهبية، من رجال ونساء وشباب، من عمال وفلاحين ورجال أعمال ومثقفين وقادة رأي وتكنوقراط، معارضة وموالاة ووسطيين، مهمشين وصامتين، مقيمين ومهجرين ولاجئين- لا يسمح بحوار مثمر فيما بينها إلا بواسطة ممثلين عن هذه المكونات، يتم اختيارهم من خلال مسح ميداني وتشاور وتبادل للرأي مع هذه المكونات وهيئة مستقلة للحوار الوطني تنشأ لهذه الغاية، وعبر آلية شفافة للاختيار تعتمد قاعدة التمثيل الواسع وتعرض تفاصيلها على الشعب عبر وسائل الإعلام، قبل اعتمادها والعمل بها.

إن الحوار الوطني المستند إلى الشعب، ليس ككتلة بشرية إنما كخيارات، سيكون جل تركيزه، بلا أدنى شك، على وضع نهاية للحرب ورسم خارطة طريق سورية للخروج من المحنة وإمعان النظر في المستقبل، فخيارات الشعب -وإن جنحت- لا تضل طريقها الوطني أبدًا.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون