الغوطة.. الملاجئ قبور الأحياء



باتت الملاجئ، في الغوطة الشرقية تحديدًا، اسمًا من أسماء القبور في سورية، وأضحت الحياة فيها أشد من الموت. لمعرفة واقع الملاجئ، خلال عدوان نظام الأسد على مدنيي الغوطة الذي بدأه منذ عشرين يومًا، وكيف يحيا أهل الغوطة اليوم في هذه الملاجئ، وكيف يمضون أيامهم؛ التقت (جيرون) بعدد من أبناء الغوطة الذين يعيشون داخل الملاجئ.

المحامي ورئيس التجمع الشعبي محمد النعسان تحدّث إلينا من داخل الملجأ، قائلًا: “كشفت النكبة عن هشاشة البنى التحتية الموجودة في الغوطة الشرقية، وعدم جاهزيتها للحاﻻت التي أعدّت من أجلها، كما أن قسمًا كبيرًا جدًا من الأبنية تشاد من دون وجود ملجأ، وفي حال وجوده، فهو عبارة عن بناء طابقي تحت الأرض، يستخدم لأغراض صناعية كورشات حرفية، أو مستودعات أو صاﻻت للمناسبات أو غيرها، كما هو معروف، إذًا هي بناء طابقي تحت الأرض، وليس ملجأً مسلحًا ومبنيًا، وفق نظام ضابطة البناء المخصص بالأصل لمواجهة ويلات الحروب وأدواتها الشيطانية”. أكد النعسان أن كثيرًا من المجازر “وقعت نتيجة انهيار كثير من هذه الأقبية، فوق رؤوس المدنيين، كقبو بناء النعسان مثلًا، حيث سقط البرميل على الرصيف أمام البناء؛ وأدى إلى انهيار الجدران الاستنادية الإسمنية، فعُجنت بلحم ودماء الأبرياء، وكان ضحيتها ثمانية عشر شهيدًا، تسعة منهم أطفال”.

عزو فليطاني، عضو الهيئة السياسية في الغوطة الشرقية، من داخل ملاجئ دوما، قال: “معظم هذه الملاجئ غير مجهزة للإقامة إطلاقًا، وهي عبارة عن مستودعات وأقبية رطبة، وقد بدأت بعد عشرين يومًا من المكث في الملجأ، تظهر بعض الأمراض، والحشرات مثل القمل والبعوض؛ فالملاجئ عبارة عن قبور أموات جماعية للأسف، وهذا أقلّ وصف للملاجئ، وعن الإضاءة، فأغلب أدوات الشحن و(اللدات) انتهت، والوضع المعيشي مأسوي جدًا، فعلينا أن نعرف أن نحو 400 ألف إنسان نزلوا جميعهم إلى الملاجئ، ولكم أن تتصوروا كم يحتاجون إلى خدمات، كذلك فإن الإنسان في الغوطة لم يعد يفكر بتجهيز ملجأ، بقدر ما يفكر باتقاء شر صاروخ أو قذيفة أو طائرة عملاقة وما إلى ذلك، كذلك عدم وجود وقود، وعدم توفره يعني أنه لم يعد بإمكانك استخدام الحطب بالملاجئ للطبخ أو للتدفئة.. إلخ، ويأتي موضوع سحب مياه الصرف الصحي، إضافة إلى تعبئة المياه. والموضوع هنا لم يعد أكل وشرب”.

أما يوسف الغوش، من ملاجئ زملكا، فقال: “قبل هذا التصعيد الخطير، كان أهل الغوطة ينزلون إلى الملاجئ في فترات متباعدة نسبيًا، ومعظمهم يسكن في شقق داخلية غير مكشوفة، أما الآن، فإن الطائرات وصواريخها وبراميلها لا تكاد تتوقف، منذ خمسة عشر يومًا؛ ما اضطر الأهالي إلى الإقامة شبه الدائمة في الأقبية، وأكثرها غير مخدّم صحيًا”. وأضاف: “وما زاد الطين بلة هو حركة النزوح الداخلي، بين مناطق تتعرض لقصف عنيف ومناطق لقصف أقل عنفًا؛ وهو ما ضاعف أعداد سكان الأقبية بشكل مخيف، وحدث أن دخلت عدة صواريخ موجهة إلى الأقبية، فقُتل كثيرون بسبب هذه الكثافة”. لكنه لفت إلى تجارب إنسانية رائعة، في التعاون بين سكان الأقبية من الأكل المشترك -على ندرته وقلته- وتبادل قصص الثورة، وتعارف ومصاهرة وانصهار بين عائلات المناطق المختلفة، لتصبح القضية واضحة خارج عتمة هذه الأقبية اللعينة، أن ثمة طاغية آثمًا يمنع عنا ضوء الشمس والحرية”.

ثائر إدريس، عضو مكتب تنفيذي لمحافظة ريف دمشق، قال لـ (جيرون): “باتت الأقبية في هذه الحملة من القصف أشبه ما تكون بمهاجع جماعية، ترى فيها ألوان البؤس من المشقة، بسبب انعدام تخديمها والأعراض المرضية التي ظهرت على الأطفال، بسبب الرطوبة والعدوى في الأمراض وقلة المياه، لكنك -مع كل تلك المآسي والويلات- تجد فيها التعاضد والتكاتف، والكل يتحمل الكل، حيث أصبحت مكانًا يشع نورًا بالدعاء للمجاهدين من النساء، ومكانًا تقوم فيه نشاطات للتخفيف عن الأطفال، ومحاولة إشغالهم بما يناسب عقولهم، ويقطع كل ذلك فجأة دوي صاروخ غادر، أو برميل حاقد”.

الناشط الإعلامي بلال خربوطلي، من كفر بطنا، تحدث لـ (جيرون) بحرقة: “لقد استنفدنا بصراحة كل عبارات الألم وعبارات الحزن وعبارات المأساة، ليس هناك كلمات تعبر عن ذلك، نحن نعيش ضمن مسلخ بشري حقيقي. الأقبية غير آمنة، ولا يمكن القول إنها ملاجئ أساسًا، هي أقبية عاديّة، وحجم القصف وآثاره كبيرين، وما يجري يدمر الأقبية فوق رؤوس أهلها”. وأضاف خربوطلي: “حتى الأطفال لم يسلموا من رائحة الكلور، وقد اختنقت الكثير من الأسر التي أصيبت بحالات اختناق، وهي في الأقبية، وليس هناك شيء يسلم من الموت ولا من الإجرام، لا طعام لدى الأطفال، يأكلون أي نوع من الأكل، لسد الرمق، فالأب يؤثر ابنه على نفسه، حتى لا يبكي من الجوع، لا يوجد أي كلام يعبر صراحة عما يجري. لم نعش يوم القيامة، لكن نظنّ أن يوم القيامة مثل هذه الأيام التي نعيشها، فكل ما ورد في وصف يوم القيامة نعيشه الآن. نحن نعيش أهوال يوم القيامة، قبل أوانها، وأهالي الغوطة ومن سيخرجون منهم أحياء، سيعيشون يوم القيامة مرتين، هذه المرة، وتلك التي ستكون يوم القيامة. هذا هو الواقع بكل اختصار، لا يوجد أي كلام ثان.. لا يوجد أي كلام”.


أحمد مظهر سعدو


المصدر
جيرون