دولة القانون



أسس المفكرون والمثقفون الذين عاصروا الثورة الفرنسية، ودرسوا أسبابها وتفاصيلها، فكرةَ سيادة حكم القانون في الدولة، بعيدًا عن سلطة الحاكم أو الملك بصفته الفردية المطلقة، واعتبروا أن القانون يضمن ترسيخ مبدأ حرية الأفراد، وبالنتيجة صيانة حرية المجتمع، وعلى هذا الأساس، وُصفت الثورة الفرنسية بأنها فيصل في التاريخ الإنساني، تبعًا لما طرحه مفكروها من مبادئ حقوقية.

(دولة القانون) هو مصطلح سياسي يعود بالأساس إلى اللغة الألمانية، ففي القرن التاسع عشر، عمل أوتو فون بسمارك على توحيد الولايات الألمانية وتأطيرها، قانونيًا أو دستوريًا، واستخدم المفهوم للدلالة على أن الدولة، بسلطتها المركزية القوية، تمتلك دستورًا ينظم عمل السلطة ومؤسساتها، وكانت تسمى “دولة الحقوق”، وتشير إلى أن مهمة الدولة هي حماية المواطنين من وقوع أي ظلم عليهم، ومنحهم الحق في ممارسة شؤونهم المدنية والاحتكام إلى المحاكم.

وعلى ذلك؛ فإن السعي لتثبيت الحقوق الفردية والجمعية للسكان، في أي دولة، هو الذي يكمن خلف هذا المفهوم. قال أفلاطون “القانون فوق أثينا”، وذلك في إشارة إلى أن القانون هو الذي يحدد دور الحاكم والمحكوم في الدولة.

اعتبر العديد من الحكام أن الدساتير التي يتم وضعها هي مصدر حمايتهم ببقائهم في مواقعهم كأصحاب سلطة، ولم ينظروا إلى الدساتير والقوانين على أنها تهدف إلى حماية المواطنين، بالمقابل يعمل المدافعون عن دولة القانون على تثبيت ثقافة أن الدولة هي التي ترعى حقوق مواطنيها من خلال قوانينها، وعلى هذا، ما زال الصراع مفتوحًا بين الحاكم أو صاحب السلطة من جهة، والمحكوم من جهة أخرى.

يقود القانون بالنتيجة إلى تنظيم العلاقة بين الطرفين، ووضعها على ميزان سليم، وتوضيح دور كل منهما، فالقانون هو الضابط لإيقاع تلك العلاقة بشكل متوازن، فالحاكم ينحو إلى اعتبار أن للسلطة بعض الضروريات التي تتيح تغليبها على حرية الأفراد، والمجتمع ينظر إلى أن تغليب يد السلطة على حقوقه سيقود إلى انتهاك الحريات، وتخطي القانون، وتثبيت الاستبداد تحت حجج الضرورات السياسية والوطنية وما إلى ذلك.

إجمالًا، عندما تتضح المسافة الفاصلة بين طرفي المعادلة في دولة القانون؛ تصبح الدولة -كيانًا وأطرًا- هي الرابح، أي أن فهم الأفراد لمعنى توضيح حقوقهم، بأنها عملية تقييد ضمن أطر قانونية بناءة وغير جائرة، يصب في مصلحة الدولة لا السلطة، وكذلك الحاكم بإدراكه أن دوره وظيفي لا سلطوي، وأن تنازله عن سلطاته كفرد، لصالح أحكام القانون، هو فعلٌ بناء لتدعيم الدولة كونها مصلحة جمعية في الأصل.

يشير خبراء القانون والباحثون إلى أن هذا المفهوم مرتبط بالهدف منه، وبوسائل الحكم ونوعيته، فالهدف من دولة القانون هو الوصول إلى نظام حكم سياسي يحمي الحقوق العامة، ويضبط عمل السلطات، ويتبنى مبدأ الفصل بينها، لتثبيت أركان الدولة الديمقراطية، وعدم الإساءة باستخدام أي سلطة، ويتم ذلك عن طريق مراقبة السلطات لأداء بعضها، وبخاصة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإتاحة مبدأ الرقابة القضائية بغية منع أي سلطة من تخطي القانون، والتعدي على الحريات والحقوق، ولهذا فإن من أهم مرتكزات دولة القانون، استقلالَ القضاء.

إن التعدي على صلاحيات المؤسسات والسلطات المختلفة، واعتبار أن الحاكم هو الآمر الناهي، وله صلاحيات سلطوية تتعدى كافة القوانين، هو ما أدى بالعديد من الدول إلى التهلكة والفشل؛ لكون الدول التي حكمتها الديكتاتوريات، انتهت إلى معايير تنمية بشرية واقتصادية وثقافية وعلمية وإدارية سيئة، أدت بالمجتمعات التي تحكمها إلى مزيد من الأزمات والفشل، وفي المقابل، أثبتت الدول التي استندت إلى القوانين في إدارة شؤونها، باعتبارها الفيصل في الحقوق والواجبات، أنها سارت في دروب تنمية بنوعية إيجابية ومتميزة، عادت بالنفع على الإنسان.

يعدّ القانون ميزانًا ومرجعية للجميع، في كل ما يحيط بشؤون الدولة والمجتمع ومؤسساتهما، بما فيه دور المعارضة السياسية في الديمقراطيات الحديثة، وذلك بتنظيم آلية العمل، والتعاطي مع المفردات التي لها علاقة بالوطن والدولة والمواطن، وهذا يشيع أجواء الأمان للتقدم ببرامج التنمية المختلفة التي تخدم المجتمع والدولة.

في سورية -على سبيل المثال- جيّرت السلطة السياسية كل القوانين لصالحها، وكرست عمل كل المؤسسات لخدمتها، فألغت الحقوق العامة والخاصة للمواطنين، كما أصدرت قوانين لاحقة ومحاكم استثنائية، تضمن لها تنفيذ الأحكام التي تلائمها، فأصبح الحاكم هو الدولة بكل كياناتها، وهو سيد القانون والقاضي، وصار الولاء له معيارَ الانتماء إلى الوطن، وبهذا؛ غاب القانون عن الدولة، وانتُهك الدستور لصالح الحاكم، وهذا ما أدى بالنهاية إلى انهيارها لغياب القانون الضابط لإيقاعها.


حافظ قرقوط


المصدر
جيرون