on
عن الخوف من الحرية
كان الطغاة وحراس المؤسسة البطريركية، على الدوام، خائفين من الحرية، لأنها كلمة السر التي تهدد كيانهم، وتستطيع تقويض وجودهم وتصديعه. لذا كانت الحرب على الحرية بلا هوادة. لمقاومتها بنيت السجون، وحفرت المعتقلات تحت الأرض، واخترعت أجهزة التجسس والتعذيب التي تفتّقت عن أقصى مديات عقل الشر الإنساني.
وظن الكثيرون، مع التطورات التكنولوجية وانفجار عالم الاتصال وتحوّل العالم قرية، بل غرفة كونية، أنّ الحرية ستتنفس الصعداء أخيراً. لكنّ الريح لم تسر وفق ما تشتهي سفن الحالمين. فكلما زادت مساحة الحرية ضاقت فسحة التعبير، وراحت المؤسسات ذاتها التي تخشى شمس الحرية، تبتكر الأدوات والقوانين والتشريعات التي تسجن الحرية وتشلّ فاعليتها، كما لو كان لسان حالها: لكل فيروس، مضاد له كفيل بالقضاء عليه.
وراهن عشاق الحرية وطلّابها، في غضون هذا الصراع الضاري بين العتمة والنّور، على مواقع التواصل الاجتماعي، فانبرى لها عدوّان ليسا من طينة واحدة؛ الأول كان العدو التقليدي المتمثل في السلطات القامعة الإكراهية التي لا تريد أن تخضع ممارساتها للرقابة والمساءلة، وتود أن تجعل كل أفعالها وكأنها دُبّرت في ليل. وأما العدو الثاني، فجاء من حيث لا يحتسب الكثيرون، وتمثل في تداول أنصاف الحقائق، وترويج الإشاعات، واختراق خصوصيات الآخرين، وفبركة الأنباء والمعلومات والأشكال والأصوات، في عملية صارت تتصاعد باطراد مرعب. والأنكى في ذلك أنّ السلطات الغاشمة ليست وحدها من تمارس هذه الأفعال، بل يشاركها، بحماسة بالغة، أشخاص منتسبون إلى فضاء مدني، يرون أنّ حرية الآخر تهديد لهم، فيسعون إلى خنقها، بشتى الوسائل.
وفي الفضاء العمومي، الذي نظّر له هابرماس، تعطلت اللغة الاتصالية بين الناس، واختلت موازين المنطق. أضحى النقاش سبيلاً لا إلى الإقناع، بل إلى القهر وترسيم حدود صارمة لا يتعين تخطيها. أنا لا أناقشك.. أنا أُملي عليك ما أريد وما أحب وما يتعين أن يصير. بهذه اللغة صار الصوت عزفاً منفرداً، وانفرطت الجوقة، وضاعت روح الأوركسترا. فما الذي يُميز هذا الذي يتفوّه بخطاب كهذا عن الحاكم المستبد الذي يصرخ «أنا أو الطوفان»، قبل أن يسأل من حوله «من أنتم»؟
«السوشل ميديا» حملت بشائر الانفتاح والتعددية، لكنها فتّتت الحرية تعبيراً ومفهوماً. أضحى كل شخص متصلاً بشبكة الإنترنت مالكاً لمنصة يصول في ميدانها ويجول، فيُعلي من شأن هذا ويزردي ذاك، ويتهم ويشتم ويفبرك المعلومات، ثم يقول لك: أنا حر. فيردّ عليه آخر يستخدم اللغة ذاتها والبذاءات التي لا تخطر في بال، من أجل «رد الصاع صاعين» ولسان حاله أيضاً: أنا حر. وبين هذين الطرفين المتناقضين تفسخت قداسة الكلام، وترنّح التعبير، وصارت الحقيقة كرة قدم تركلها الأقدام المغبرّة.
ولأنّ الحرية تتغذى من شرايين الحق، فإنها تتألم وهي ترى ذاتها سجينة هذه السلطات التي تمتهنها وتعريها، وتتركها وحيدة في البرد القارس، حيث يرقبها الطغاة من شرفاتهم العالية شامتين، ولسان حالهم يقول لسنا وحدنا من نخشى الحرية، بل إنّ البشر بطبيعتهم يخشونها أيضاً إذا هددت مصالحهم، ووقفت في طريقهم.
ولأنّ الطاغية هو أب في زي جنرال، أحياناً، فإنّ يريد شعباً سعيداً هادئاً مقلّم الأظافر، لا يثير المتاعب ولا يتدخل في ما لا يعنيه، وإن لم يفعل ذلك خرجت الهراوة من غمدها. ولعل هذا ما يستدعي حكاية الطفل المولود الذي يجهد أهله في سبيل تعليمه الكلام ونطق الحروف وتعلم اللغة، فإن هو أتقن ذلك وامتلك ناصية البلاغة والحق، جهد هؤلاء في إسكاته وإخماد صوته!
(*) كاتب أردني
الحياة
المصدر
جيرون