on
نيو يورك تايمز: انظروا.. ها هو فلاديمير ف. بوتيمكين
الصحافيون يتابعون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطابه السنوي عن الأمة في موسكو الأسبوع الماضي. تصوير ألكسندر زيمليانيشينكو/ أسوشيتد بريس
إذا كان تشي جين بينغ هو أقوى رجلٍ في العالم؛ فمن الحكمة التقليدية أن نضع فلاديمير بوتين في المركز الثاني، إذ إنه جعل قوته العارية مرادفًا لروسيا المنبعثة. ويبدو أن بوتين يلعب على كامل رقعة الشطرنج، مما تسميه روسيا “دول جوارها”، بالنسبة إلى الشرق الأوسط، أكثر من أوروبا إلى أميركا.
عندما يتعلق الأمر بزرع الشك حول الديمقراطية، وتغذية الانشقاق بين الأميركيين؛ فإن السيد بوتين “يتزعرن” علينا، كما تحتفظ روسيا بأكبر ترسانةٍ نووية في العالم، وبأسلحةٍ جديدة في الميدان، حيث رأى بوتين أن من المناسب التباهي بها في أثناء خطابه عن حالة الأمة، في الأسبوع الماضي، وإن تجاوز خطابه واقعها الفني بكثير.
ولكن في أماكن أخرى، تغذي نزعة المغامرة الروسية حالةً متنامية، ومزعجة من عسر الهضم، وتخفي تعفنًا عميقًا في روسيا نفسها. السيد بوتين هو رسامٌ ماهر للمظاهر، ولكن قريته الروسية تبدو -على نحو متزايد- أقلّ مما يطمح إليه وأكثر بكثير من قرية بوتيمكين. (قرية وهمية لخداع الآخرين بأن الأمور في وضع جيد على عكس ما هي عليه، وبوتيمكين 1739-1791 أميرٌ روسي ونبيل، وقائد عسكري ورجل دولة، كان مقربًا من الإمبراطورة كاترين).
دعونا نبدأ من سورية. صحيحٌ أن تدخل موسكو الكثيف منَع انهيار الرئيس السوري بشار الأسد، وحافَظ على موطئ قدمٍ وحيد لروسيا في الشرق الأوسط، ولكن بعد أن حاول السير عكس التاريخ؛ تورط فيها، ولم يعد بمقدوره الانسحاب منها؛ لأن السيد الأسد سيغرق، لذلك فإن روسيا عالقةٌ وسط صراعاتٍ متعددة لا تستطيع السيطرة عليها: بين نظام الأسد والمتمردين، وبين تركيا والأكراد، وبين قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وتنظيم (داعش)، وبين “إسرائيل” وسورية وإيران، وبين السنة والشيعة. إنه مكعب روبيك (لغز ثلاثي الأبعاد اخترعه النحات الهنغاري وأستاذ العمارة إرنو روبيك عام 1974) للمصالح المتضاربة الذي يجعل الشركاء في جبهةٍ واحدة خصومًا على الجبهة الأخرى.
بعيدًا عن التراجع، فإن الحرب الأهلية في سورية مستعرةٌ ببطءٍ، ولكنها بالتأكيد تزداد فتكًا، بالنسبة إلى القوات الروسية، وأكثر ضررًا بسمعتها، وأكثر استنزافًا لمواردها. موسكو متواطئةٌ تمامًا في حملة الأسد القاتلة ضد المعارضة السنّية، في المقام الأول، وقد وصلت الآن إلى مستوياتٍ جديدة من الفساد والانحلال الأخلاقي، مع القصف العشوائي للمدنيين في الغوطة، وهي ضاحيةٌ تقع خارج دمشق. إن تحالف موسكو مع الأسد وإيران، على ذبح السنة، يهدد بمعاداة وعزل المملكة العربية السعودية ودول الخليج وتركيا، كما أنه سيؤجج صدر السكان المسلمين السنّة في روسيا، وإخوانهم في آسيا الوسطى والقوقاز، ويشعل فتيل مزيد من الإرهاب الموجه ضد موسكو.
يصرُّ بوتين على أن الروس الذين يقاتلون الآن على الأرض في سورية هم مرتزقة (بندقية للإيجار). لكن الاستخبارات الأميركية تعتقد أن الرجل الذي يسيطر عليهم هو يفغيني بريغوزين، وهو ثريٌّ بارز ومقرب من السيد بوتين، ويأخذ أوامره من الكرملين، وهو واحدٌ من 13 ثريًا وجّهت الولايات المتحدة إليهم الاتهامات مؤخرًا، في تحقيق النيابة الخاصة بشأن تدخل روسيا في انتخابات عام 2016 الأميركية. سواء أكانوا جنودًا نظاميين أم لا؛ فالمقاتلون الروس في سورية يجدون أنفسهم، على نحو مطرد، في حرائق من صنع أيديهم، ومن ذلك، الهجوم الأرعن على القوات التي تدعمها الولايات المتحدة ضد (تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش) شرق سورية. وعندما ردَّت قوات الطيران الأميركية، لربما قُتل ما يقرب من 200 روسي. وقد تكتم السيد بوتين على المأساة، لتجنب الاعتراف بالوفيات في الداخل/ روسيا -بعد أن أعلن مرارًا أن المهمة قد أُنجزت- أو يخاطر بالصراع المباشر مع الولايات المتحدة.
سورية لم تصبح المستنقع الأفغاني الجديد لروسيا بعد، ولكن رمالها المتحركة تبتلع روسيا نحو قاعها.
في الوقت نفسه، أيًا كان الفخر الوطني الذي حرضه بوتين في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، فقد صار عتيقًا، واحتياجات المنطقة تضغط على خزينة روسيا بثبات. والأسوأ من ذلك أن تدخله في شرق أوكرانيا قد عجّل بالعديد من التطورات التي سعى السيد بوتين إلى منعها.
إن حلف شمال الأطلسي هو أكثر نشاطًا مما كان عليه منذ سنوات، ليس بسبب شجاعة الرئيس ترامب، بل ردًا على عدوان بوتين. يوجد لدى الحلف الآن قوات جوية وبرية وبحرية منتشرةً على طول الحدود الروسية، وتزداد ميزانيتها، جزئيًا من خلال ضخٍ متواصل للأموال من الولايات المتحدة. لقد أعاد الاتحاد الأوروبي إحياء فكرة تعزيز قدراته الدفاعية، مدفوعًا بتهديدات السيد بوتين، والتراجع الخطابي للسيد ترامب عن التزام أميركا بالدفاع عن أوروبا. فالأوروبيون يزدادون جديةً بشأن أمن الطاقة. وهم يبحثون عن طرقٍ جديدة وعن خطوط نقبٍ ومصادر للوقود والطاقة المتجددة، وهذا يجعل من الصعب على السيد بوتين استخدام النفط والغاز كوسائل ضغطٍ استراتيجية. وقد أدت العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة -على الرغم من تردد السيد ترامب في فرضها- إلى إلحاق ضررٍ حقيقي ومستدام بالاقتصاد الروسي.
أما بالنسبة إلى إبقاء قبضة روسيا على مستقبل أوكرانيا، فقد تمكن بوتين من عزل الغالبية العظمى من مواطنيها لأجيال، والفساد الممنهج في أوكرانيا هو الآن أكبر عقبة في مسارها الأوروبي وهو أكثر إعاقة لها مما تشكله موسكو.
يباشر السيد بوتين مغامراتٍ أجنبية في جزءٍ منها؛ ليصرف شعبه عن الاستياء في داخل روسيا، حيث الإصلاح متوقفٌ، واقتصاد العجلة الواحدة لا يمكن كسر إدمانه على الطاقة.. الفساد واللصوصية يأكلان كل شيء، والسكان يشيخون ويتراجعون، والمعارضة مكبوتة ولكنها مرنة.
وكما قال نائب الرئيس السابق جو بايدن -وقد عملتُ معه مستشارًا للأمن القومي- أمام حشدٍ في مؤتمر الأمن السنوي في ميونيخ، الشهر الماضي: “من خلال أي مقياسٍ موضوعي؛ هذا البلد هو في حالة تدهورٍ خطير”.
ومن السخرية أن الولايات المتحدة وأوروبا لديهم مزيد من الخوف من روسيا ضعيفة، أكثر من روسيا قوية. فكلما تصدعت الأمور أكثر؛ هاجم السيد بوتين أكثر. لكن حتى في الوقت الذي لا يملك فيه بوتين خياراتٍ كثيرة، فهو يحمل ورقةً رابحة: تدخله منخفض التكلفة وعالي التأثير في الديمقراطيات الغربية.
كان هدف بوتين الرئيس في انتخابات 2016 هو نزع الشرعية عن مؤسساتنا، وتحريض الأميركيين ضد بعضهم البعض. ويصر السيد ترامب في كل فرصةٍ على أنه لم يكن هناك تواطؤٌ من جانبه أو من طرف حملته. المستشار الخاص روبرت مولر سيوضح أو يكشف ذلك.
ولكن في كل مرةٍ يهاجم السيد ترامب مؤسسة أميركية أساسية (مجمع الاستخبارات، ومكتب التحقيقات الفدرالي، والقضاة، ووسائل الإعلام، والكونغرس)، أو يشوّه مجموعة واحدة من الأميركيين (يختار أي منها)، أو ينشر أخبارًا وهمية؛ فإنه يقوم بعمل السيد بوتين. التواطؤ الآن -وهو أكبر مصدرٍ لاستنزاف بوتين- لا يزال قوةً خطرة.
اسم المقال الأصلي Behold Vladimir V. Potemkin الكاتب* أنتوني ج. بلينكين، Antony j. Blinken مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 5/3 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2018/03/05/opinion/vladimir-putin-syria.html?rref=collection%2Fsectioncollection%2Fopinion عدد الكلمات 960 ترجمة أحمد عيشة*- أنتوني ج. بلينكين: نائب وزير الخارجية في إدارة أوباما، والمدير الإداري لمركز بِن بايدن، والمؤسس المشارك لشركة استشارية WestExec Advisors، وكاتب رأي.
أحمد عيشة
المصدر
جيرون