on
سورية: شرق أسود وغرب أبيض
تكشف ردات الفعل الأخيرة، من جانب شريحة واسعة من السوريين، حيال سيطرة أميركا على كامل المنطقة شرق الفرات، إضافة إلى أجزاء واسعة من منطقة منبج غرب الفرات، عن طبيعة التصورات الذهنية التي تتغلغل بعيدًا، في لا وعي تلك الشريحة، وعن طبقية في رؤيتها لهذه المنطقة. وهي تصورات تُظهر خللًا في النظر إلى التراب الوطني الذي ينقسم -في نظر أصحابها- إلى تراب يسكنه سوريون بيض، وتراب يسكنه سوريون سود، بالمعنى الاصطلاحي لكلمتي أبيض وأسود.
في سياق تتبع ردات الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي -وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة حاليًا لجس نبض الشارع السوري المشرد في دنيا الله- يمكن للمرء أن يلاحظ، منذ بداية الثورة السورية، أن تلك المنطقة نالت أدنى اهتمام من التغطية الإعلامية؛ ما يسمح لنا أن نطلق عليها بحق “المدن المنسية” أو “المنطقة المنسية”.
لا شك أن المنطقة الشرقية في سورية لم تكن بالسوية الاجتماعية والاقتصادية ذاتها التي كانت عليها بقية مناطق سورية، في لحظة تشكل “الدولة السورية” في عام 1918. فحالة البداوة التي كانت تعيشها تلك المنطقة لم تسمح بنشوء نخبٍ تشترك في النقاشات الفكرية والسياسية الدائرة آنذاك، بل اقتصر حضورها على مشاركة رمزية، دلالة على تبعية هذه المنطقة للدولة الوليدة.
ثمة عامل تاريخي وراء حالة البداوة، في منطقة الجزيرة السورية، وفي العراق أيضًا. وإن المرء يقف في حيرة حيال صورتها التاريخية التي تحفظها كتب الأدب والتاريخ، وهي صورة لا تختلف عن مدن الشرق الأخرى من الناحية الحضارية؛ فالرقة كانت مصيف هارون الرشيد، ونصيبين، ومثلها حران (أورفا حاليًا)، تحولت إلى مركز مهم للترجمة طوال العصر العباسي، وكانت منبج من أهم المدن في صناعة الورق، في حين أن رأس العين كانت في طريقها إلى التحول من بلدة كبيرة إلى مدينة كسائر المدن. هذا العامل الذي أدى إلى نشوء حالة البداوة هو الغزو المغولي.
روّعت الهجمة المغولية، التي استمرت مدة قرنين تقريبًا، شرق العالم الإسلامي، وخصوصًا البلاد الواقعة إلى الشرق من الفرات الذي شكل حاجزًا طبيعيًا منع الهجمات اللاحقة من التوسع غربًا. لاذ الكرد بجبالهم الشاهقة، فأصبحوا رعاة أغنام، وفعل مثلهم سكان مدن الجزيرة السورية والعراق، فآثروا حياة البداوة والتنقل على التحصن في مدنٍ، ثبت أن أسوارها أقل تحصينًا من حجم الغزو المغولي الذي قضى على كل المراكز الحضارية في طريقه. وللدلالة على الرعب الذي أحدثه الغزو المغولي، يكفي أن نذكر أن مدينة بغداد هجرها أهلها، حتى إنها كانت قرية كبيرة في بدايات القرن التاسع عشر، وأن الرقة التي قامت على أطلال المدينة القديمة، بدأت بالتشكل في النصف الثاني من القرن نفسه.
إذن، فقد بقيت الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، على ما هي عليه، طوال قرون الحكم العثماني، ذلك أن المضمون الحضاري للدولة العثمانية لم يكن متسقًا مع رقعتها الجغرافية الواسعة، ولا مع امتدادها الزمني، ربما بسبب الطابع العسكري الذي وسم السلطنة العثمانية، منذ نشوئها حتى انهيارها.
بسبب حالة البداوة التي استمرت قرونًا، فإن أبناء المنطقة لم يشتركوا في النقاشات الفكرية والسياسية التي أدت إلى ولادة سورية الحديثة التي كانت تضم أيضًا لبنان وفلسطين والأردن؛ ذلك أن أهم ما توفره المدينة هو حالة الاستمرار في الإنتاج العلمي والثقافي والاقتصادي، وهذا ما افتقدته المنطقة بسبب اندثار المدن، وغياب المراكز الحضارية التي يمكن أن تؤمن تواصلًا معرفيًا وثقافيًا، يمتد عبر الأجيال. ومع اقتطاع لبنان، وانشغال الفلسطينيين بمواجهة سياسات الاستيطان، بعد وعد بلفور، ونشوء إمارة شرق الأردن، فإن النخبة السياسية والفكرية اقتصرت على محور البرجوازية الممتد من دمشق إلى حلب. هذا المحور هو الذي شكل عماد الدولة السورية حتى السبعينيات، حين بدأ المحور بالانزياح غربًا باتجاه المنطقة الساحلية.
أدى تشكّل الدولة السورية الحديثة، وفق ما ذكرناه، إلى طبقية ملازمة لتعاملها مع المناطق المختلفة التي تكون منها الكيان السياسي الوليد. لقد احتلت مدن المحور البرجوازي ما يمكن أن نطلق عليه عصب السلطة، والقوة الأساسية في إدارات الدولة المختلفة، وبخاصة في الأجهزة المدنية التي كان لها تأثير كبير، في فترة ما قبل البعث. أما بقية المناطق فكانت ضمن الهامش: المنطقة الساحلية لم يكن لها دور في النقاشات التي أدت إلى ولادة سورية، نظرًا إلى عزلة طويلة عاشها العلويون في جبالهم، نمّت لديهم نزعة الاستقلال والنفور من السلطة التي تعاملت معهم بكثير من الحذر والريبة، إزاء رغبتهم المعلنة في الانفصال، لكن هذه الوضعية ستتغير كليًا منذ السبعينيات من القرن الماضي، حين انزاح العصب الرئيس للدولة نحو المنطقة الساحلية، بحيث تشكلت عصبية طائفية ذات بعد مناطقي، سيطرت على الأجهزة الصلبة للدولة. أما منطقة حوران فقد أفادت من القرب الجغرافي من مركز العاصمة، فتشكلت “مجموعات ضغط” في كل أجهزة الدولة، من هذه المنطقة التي جرى الاعتماد عليها، في عددٍ لا يستهان به من المواقع الحساسة في عهد البعث. وحدها المنطقة الشرقية بقيت تتربع في ذيل القائمة، منذ تشكل “الدولة السورية”، وزاد الطين بلة أن البعث، مع قدومه إلى السلطة، شرع في التعامل مع المنطقة بسياسة تحمل قدرًا لا يستهان به، من الاستعلاء الشوفيني، على اعتبار أن جزءًا من سكان المنطقة هم من الأكراد.
أثبتت أميركا أنها تعرف سورية أكثر من السوريين أنفسهم الذين كانوا ينظرون إلى المنطقة الشرقية على أنها منطقة “نامية”، وهو تعبير مخفف يخفي وراءه تصورات ذهنية معينة؛ لقد وضعت أميركا يدها على سورية المفيدة حقًا، تاركة “سورية غير المفيدة”، بثقلها السكاني ومشكلاتها المعقدة لبقايا النظام والمعارضة معًا.
سليمان الطعان
المصدر
جيرون