معهد العالم العربي والشراكة الثقافية



لم يكن هناك شك لدى إدغار بيزاني في أنه لن يكون هناك معنى لرسالة (معهد العالم العربي) التي أسس من أجل تحقيقها، إن لم توضع قواعد شراكة حقيقية بين الطرفيْن المؤَسِّسَيْن، فرنسا من جهة، والعالم العربي، ممثلًا بالدول الأعضاء في الجامعة العربية، من جهة أخرى، لا تقف قطعًا عند التمويل المشترك والإدارة التقليدية من خلال الهيئتيْن الرئيستيْن: المجلس الأعلى ومجلس الإدارة. على أنه إذا كان لفرنسا صاحبة المبادرة رؤية واضحة يتفق على طبيعتها ممثلوها فيه بدءًا بالرئيس؛ فإن للعرب، على توقيعهم الاتفاقية ذاتها التي وقعتها فرنسا، مذاهب في فهم المعنى والرسالة تكاد تتعدد بعدد الدول التي تمثلهم!

لذلك، كان على إدغار بيزاني الذي كان من الواضح أن رؤيته تتماهى مع رؤية الرئيس الفرنسي آنئذ فرنسوا ميتران، للمعهد ولرسالته، أن يعمل بسرعة وعلى مستوييْن معًا: المستوى الدبلوماسي في الخارج، والمستوى التنظيمي داخل المعهد.

هكذا، لم تقتصر خطة الرئيس الجديد بالطبع، من أجل إطلاق المعهد، على دفعه إلى مقدمة المشهد الثقافي بباريس، والتأكيد -في الوقت نفسه- على بعده السياسي، من خلال استعادة مصر، بوصفها دولة مؤسسة بين الدول العربية للمعهد، ثم إدخال فلسطين كعضو مؤسس أيضًا، كما تمت الإشارة إلى ذلك في المقال الأخير، والذي كان من أولى نتائجه استقبال ثلاث فعاليات رئيسة، قام بها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، خلال أول زيارة قام بها إلى فرنسا (اللقاء مع كبار الصحفيين والمثقفين الفرنسيين، وحفلة العشاء الرسمية، والمؤتمر الصحفي في ختام الزيارة) ثم، بعد ذلك، من خلال تدشين ما صار يعرف -فيما بعد- بالمَعارض الكبرى، بدءًا بمعرض “مصر عبر كل العصور”، الذي افتتح في 16 تموز/ يوليو 1989، بحضور رؤساء خمس عشرة دولة، إلى جانب الرئيس المصري ورئيس الوزراء الفرنسي؛ إذ إن الخطة كانت تقتضي، إلى جانب دراسة مختلف إمكانات حل مشكلة التمويل المشترك للمعهد، أن تمتد لتشمل، كخطوة أولى، إعادة النظر جذريًا بالهيكل التنظيمي القائم في المعهد، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، تمهيدًا لوضع أسس سياسة ثقافية، تقوم على الشراكة العربية الفرنسية داخل المعهد، لا على صعيدي التصميم والتخطيط فحسب، بل على صعيد التنفيذ والمُنَفذين.

كان بيزاني قد لاحظ عند وصول إلى المعهد رئيسًا، أن النشاطات الثقافية كانت موزعة كيفما اتفق، على دوائر باتت أشبه بقلاع تعمل كلٌّ منها باستقلال كامل عن سواها. كما خرج أيضًا، بعد لقائه مع موظفي المعهد الذين كان عدد الفرنسيين منهم أقل من عدد مختلف الجنسيات العربية مجتمعة، سوء توزيع الاختصاصات أو الإمكانات بينهم. لذلك، وفي سبيل إعادة النظر في الهيكل التنظيمي من أجل بنائه مجَدَّدًا (وكان لبيزاني في هذا الميدان تجربة ناجعة في الوزارات التي تولاها خلال عهد الجنرال ديغول)، سارع كخطوة أولى في فتح الباب أمام جميع الموظفين، كي يعبّروا عن رغباتهم في طبيعة العمل الذي يودون القيام به في المعهد (دون أن يعني ذلك بالطبع الاستجابة الآلية لهذه الرغبات) انطلاقًا من نشأتهم وتحصيلهم العلمييْن وتجربتهم المهنية، طالت أم قصرت، في مجال العمل الذي يفضلونه، مع احتفاظه بالركنيْن الأساسيْن في المعهد: المتحف من جهة والمكتبة العامة من جهة أخرى. اعتمد المخطط الجديد في تحديد المهمات على طبيعتها وأدوات تنفيذها: الكلمة (الوثيقة، الندوات، الموائد المستديرة)؛ الصورة الساكنة والمتحركة؛ الموضوعات الفنية (الآثار، المنحوتات، اللوحات التشكيلية..). هكذا ولدت أوائل النشاطات الجديدة: خميس المعهد (مائدة مستديرة أسبوعية)، وكرسي المعهد (سلسلة من المحاضرات العلمية الأسبوعية، تتناول موضوعًا محدّدًا، يلقيها أستاذ جامعي كل ثلاثاء خلال ثلاثة أشهر)، والتي ستغتني مع الأيام بموائد مستديرة شهرية، تتناول موضوعات الساعة في العالم العربي، فضلًا عن الندوات المغلقة التي كان يديرها ويختار المشاركين فيها بيزاني نفسه، لبحث أمور تتعلق بالسياسة العامة للمعهد أو العلاقات العربية الفرنسية، إلخ. أما على صعيد الصورة، فقد خصصت قاعة لمعارض التصوير الفوتوغرافي تنظم شهريًا، والأوديتوريوم بوصفه قاعة متعددة الإمكانات، للصورة المتحركة، أي للعروض السينمائية المنتظمة أسبوعيًا، فضلًا عن استقبال مهرجان السينما العربية السنوي، والذي صار بعد ذلك ينظم كل سنتيْن. أمّا الموضوعات الفنية، فقد خصصت لها قاعتان متصلتان للمعارض المتوسطة الحجم، في حين خصص الطابق الأول والثاني للمعارض الكبرى، وقد استقبل فيها أول معرض من هذا القبيل: مصر عبر كل العصور.

بذلك كان النشاط الثقافي في شموليته يغطي مختلف المجالات الفكرية والأدبية والفنية في العالم العربي، مستعيدًا الماضي بمنجزاته وجمالياته، بقدر اهتمامه بالحاضر، على صعيد الإبداعات والإنجازات الفنية والفكرية، ومن خلال تناوله إشكالاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. كان يراد للمعارض الكبرى التي كان روادها يعدون بمئات الألوف، أن تكون فرصة حشد لفعاليات المعهد في كل المجالات، من حول الثيمة التي يتناولها المعرض الكبير. لم يكن هذا الهدف ممكن التحقيق على الدوام، لكن تنوع وغنى البرمجة، في ميدان الكلمة والصورة، كان يثير فضول رواد المعرض الكبير، ممن كانت اهتماماتهم تتجاوز جماليات الماضي، باتجاه معرفة أكثر بحاضر مهد هذه الآثار أو الجماليات على اختلافها.

لم تتحقق الشراكة الثقافية العربية والفرنسية في التخطيط وفي الإنجاز، على صعيد فرق العمل المختصة في كل مجال من هذه المجالات، سواء في موقع القيادة أو في موقع التنفيذ، فحسب، بل تجاوزتها إلى اختيار المدعوين للمشاركة في الندوات أو في الموائد المستديرة. وكثيرًا ما كان إدغار بيزاني يكرر أمام أعضاء اللجنة الإدارية التي تضم مختلف مسؤولي الأقسام في المعهد: “يجب أن نسمع صدى اللغة العربية يتردد في فضاء المعهد”. كان يعني بذلك ضرورة تواجد أصوات عربية قادمة من البلدان العربية، كي تدلي بدلوها في سجالات ونقاشات المعهد على اختلافها، لا أن يُكتفى بالمثقفين العرب الناطقين بالفرنسية المقيمين منهم بباريس.

كان إدغار بيزاني يتلقى بعض الملاحظات النقدية على البرامج الثقافية. وهي ملاحظات تمس -في معظمها- المعارض الكبرى التي تركز على آثار الماضي التي يولع بها الجمهور الفرنسي، والتي لم تكن، مع ذلك، قد وضعت معهد العالم العربي في مقدمة المشهد الثقافي الباريسي، إلى جانب مؤسسات ثقافية عريقة كمتحف اللوفر أو متحف أورسيه أو المكتبة الوطنية فحسب، بل أسهمت في رفع عدد زوار المعهد إلى ما يقارب مليون زائر سنويًا. وهو عدد ما كان من الممكن تحقيقه، لولا هذه المعارض الكبرى التي كانت، فضلًا عن ذلك، تكاد تمول نفسها بنفسها، بفعل وارداتها من تذاكر الدخول وبيع الكتب المخصصة لها أو حولها. ذلك ما حمل بيزاني على أن ينظم على إثر النجاح الكبير الذي لاقاه معرض (سورية، ذاكرة وحضارة)، في أيلول/ سبتمبر، وتشرين الأول/ نوفمبر عام 1994، عددًا من اللقاءات المغلقة مع مثقفين فرنسيين بباريس، ومع مثقفين عرب في تونس ومصر والأردن وسورية، كي يصغي إلى ما يمكن لهم أن يقدموه من إجابات، عن سؤال طرحه عليهم: ما الطريقة الأفضل، وبأي كيفية ترى تقديم العالم العربي، حضارة وثقافة وحركية اجتماعية، إلى الجمهور الفرنسي خاصة والأوربي عامة؟

لم يكن ثمة اختلاف جوهري أو عميق بين الإجابات التي قدمها المثقفون، خلال اللقاء بهم في تونس العاصمة، والتي سمعتُ مجرياتها المسجلة، وتلك التي قدمها المثقفون خلال اللقاءين اللذين جريا بالقاهرة وبعمان، واللذين قمت بتنظيمهما شخصيًا. أما لقاء دمشق فقد كانت له قصة أخرى، تعكس خصوصية النظام الأسدي، في هذا المجال كما في سواه، بالمقارنة مع الأنظمة العربية الأخرى، على اختلافها، والتي لا بد من روايتها لدلالاتها المهمة في هذا المجال.

حرص بيزاني على أن يجري لقاءه بالمثقفين، في مكان غير رسمي. في القاهرة، كان الشريك في التنظيم وزير الثقافة المصري السابق ثروت عكاشة، الذي اختار مقر جمعية الصداقة الفرنسية المصرية مكانًا للقاء الذي دُعيَ إليه، وحضره كبار المثقفين المصريين من مختلف الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية. أما في عمان، فقد كان الشريك هو المفكر الأردني، وعضو المجلس الأعلى السابق في المعهد الدكتور فهمي جدعان الذي استقبل اللقاء في بيته، والذي دُعيَ إليه وحضره كذلك كبار المثقفين والمفكرين الأردنيين.

كان الإلحاح في القاهرة، كما في عمان، على ضرورة تقديم العالم العربي، لا من خلال ماضيه المجيد فحسب، بل -أيضًا وخصوصًا- من خلال وضعه الراهن، أي من خلال مشكلاته وعثراته وقصوره عن تحقيق نهضته. وكان هذا الرأي يلتقي، في خطوطه العريضة، مع خلاصة الاجتماع الأول والوحيد للجنة الثقافية الاستشارية التي رأسها جاك بيرك، والتي كان على ثروت عكاشة، أن يرأسها في اجتماعها الثاني الذي لم ينعقد، بسبب الضجة التي أثارها السفراء العرب حوله وحول مقرراته. بعبارة أخرى، كانت آراء المثقفين العرب في البلدان العربية أو الفرنسيين في فرنسا معًا، على طرفي نقيض مما كان السفراء العرب يعبرون عنه لدى الخارجية الفرنسية، أو في اجتماعات المجلس الأعلى أو مجلس الإدارة للمعهد.

تلك كانت -كما يقال في سورية- عقدة النجار.. أو بالأحرى المعضلة التي واجهَت إدغار بيزاني في محاولته الجريئة. أما رواية الاجتماع بدمشق، وهي جديرة بأن تروى، فستكون بداية المقال التالي والأخير.


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون