هل نندم على الثورة؟



بعد مرور ثمان سنوات على اندلاع الثورة السورية، ثمة كثير من الأسئلة، وكثير من النقد، وكثير من البوح، وكثير من الوجع والألم الناجمين من المآل الذي وصلت إليه سورية المقطعة جغرافيًا، بين احتلالات كثيرة، والراقدة اجتماعيًا بين براثن “مجتمعات” تتبادل الكراهية علنًا، بالتوازي مع خسارة حوالي أربعة عقود (على الأقل) من التنمية البشرية، فيما ما زالت ترقد -سياسيًا- دون الصفر؛ إذ لم تزل السياسة ترواح في مكانها، إن لم نقل هي في تراجع، بفعل اجتماع ذئاب العسكرة والأسلمة والتحاصص الدولي الإقليمي على جسد هش أساسًا.

طالما الحال كذلك، تصعد أصوات كثيرة تطالبنا وتطالب كلّ من أيّد الثورة، بإعلان الندم والتبرؤ منها، بل يصل بعضها إلى حد المطالبة بالاعتذار؛ الأمر الذي يضعنا في مواجهة سؤال: هل نعتذر؟ ولمن نعتذر؟

يغفل المطالبون بالاعتذار، عن حقيقةٍ مفادها أن الثورة في العمق تعكس تحولات عميقة في بنية المجتمعات، تحولات تُراكم الغضب الذي ينتظر لحظة الانفجار، وهنا يكون مسببو الثورة أو الداعين إليها ليسوا أكثر من الأداة التي يستخدمها التاريخ، لبدء الزلزال، فهل يمكن أن نطالب محمد البوعزيزي بالاعتذار؟ وهل كان يمكن لمحمد البوعزيزي، لو أراد، أن يوقف الثورة؟

بالتأكيد، لا. لأن شروط الثورة كانت تختمر في القاع التونسي الذي كان ينتظر لحظة مناسبة، للانتفاض ضد سلطة وجلاوزة بن علي الغاشمة، ضد الفساد المتراكم، ضد تسويف الإصلاح الذي ظلت الجماهير تطالب به طويلًا وطويلًا، فيما تودعه السلطات أدراجها إلى الأبد، علمًا أنه لا يوجد شعب واحد في العالم يتجه نحو الثورة، ويدعو إليها، حين يكون الإصلاح الحقيقي متاحًا وممكنًا، فالثورة تكون حين يُمنع الإصلاح.

وأيضًا، ينظر المطالبون بالاعتذار إلى النتائج السيئة بحق التي آلت إليها سورية والثورة، ليطلقوا صرختهم: ألا تخجلون من هذا الدم؟ ألا تخجلون من المهجرين؟ ألا تخجلون من اللاجئين؟ وكأن الثورة أو من طالب بها، هم من فعل ذلك وسعى له عامدًا متعمدًا!

هنا أيضًا، يغفل هؤلاء عن حقيقةٍ، مفادها أن أغلب الثورات (خاصة المسلحة منها) في العالم -تقريبًا- انتهت في مرحلتها الأولى إلى الدمار والعنف، وتم امتطاؤها لصالح الثورة المضادة أو الإرهاب الديني أو انتهت إلى المقاصل، ولكن لم يعتذر هؤلاء عن ثورتهم، لإدراكهم أنها كانت الخيار الوحيد والاضطراري، في تلك اللحظة، في وجه أنظمة، لم تترك لهم أي خيار آخر، فهل يمكن أن نطالب الشريف حسين بالاعتذار عن الثورة العربية الكبرى، أو نطالب قادة الثورة السورية الكبرى (سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو والشهبندر..) 1925 بالاعتذار، لأن الفرنسيين أخضعوا الثورة وقضوا عليها آنذاك، وهل كانوا هم السبب في قصف غورو لدمشق؟

هنا نصل إلى نقطة مهمة، وهي أن الثورة (أي ثورة) لم تكن يومًا بما تؤسسه في حاضرها الراهن، بقدر ما كانت بما تؤسسه للمستقبل، وبما تفتحه من أفق وتغيير وإيمان بالذات وأفكار جديدة، إذ بعد عقدين من الزمن رحلت فرنسا، وما كانت لترحل دون الثورة السورية التي فتحت باب السياسة والحراك الاجتماعي الذي توّج بالإضراب الستيني الذي كان البداية لرحيل الفرنسيين وجلائهم عن سورية.

إذن؛ إن فعل الثورة لا يستوجب الاعتذار، ولا التراجع ولا الندم. وعلى الصعيد الشخصي، لو عاد الزمن إلى عام 2011؛ لكان لي المواقف نفسها، ولشاركت في التظاهرات التي شاركت فيها، وعلى الصعيد العام، كانت سورية ستسير في المسار الذي سلكته نفسه، لأن نهر التاريخ لا يمكن أن يقف في وجهه أحد، والثورة لم تكن إلا نتاج تراكمات قديمة وحديثة، تراكبت فوق بعضها البعض، وانفجرت على النحو الذي نشهده اليوم. بل إن ما رأيناه من فجور وانحطاط وإجرام هذا النظام وداعميه، يكفي لكيلا نندم على أننا صرخنا في وجهه: حرية.

لكن؛ هل يعني هذا تبرئة للذات مما آل إليه الوضع السوري؟ وهل علينا إذّاك أن نركن إلى اليأس أو الأمل بأن الثورة يمكن أن تنتصر وحدها، وتشق مسارها نحو الأفضل؟

أبدًا، إن الثورة هي قبل غيرها، من يستدعي نقد الذات ومساءلتها والاعتراف الخطأ، بل مساءلة الثورة نفسها ونقدها ونقد مسارها وتياراتها وسياسييها، بل إن الثورة التي لا تجرؤ على الاعتراف بأخطائها، وتسكت عنها، لا تستحق لقب الثورة؛ الأمر الذي يستدعي النقد والاعتراف بالخطأ الذي وقعنا فيه جميعًا، سواء على مستوى التحليل السياسي والكتابة أو على مستوى الفعل السياسي أو العسكرة، وهذا أمر طبيعي جدًا، فمن لا يعمل ويفكر ويراجع ويعيد النظر؛ لا يخطأ، فالصواب المطلق تمتلكه الدكتاتوريات وحدها، ومن يطالبون بالاعتذار ربما، لأن في جعبتهم كل الشتائم والإجابات الجاهزة، تلك الإجابات التي جاءت الثورة ضدها أيضًا، فهل يُدركون؟


محمد ديبو


المصدر
جيرون