سوريا: سبع سنوات من الثورة والتجاهل الدولي



مرّت سبع سنوات على انطلاقة الثورة السورية ولا تزال صور القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين والدمار تهيمن على المشهد السوري. لم يتوقّع أحد أن يتمكن نظام دكتاتوري في أي مكان من العالم من قتل المئات من الآلاف وتهجير الملايين من شعبه لمدة سبع سنوات متواصلة، بلا توقف ولو ليوم واحد، ودون لأن يحرك العالم ساكناً. وعندما قررت بعض دول العالم التدخل، جاء قرارها إما لحماية النظام السوري في حالة روسيا، وإما لقتال تنظيم داعش في حالة أميركا. وفي كلتا الحالتين، ساعد التدخل الخارجي النظام السوري على متابعة عمليات القتل والتهجير والتدمير والانتقام من الثورة الشعبية.
ولكن التجاهل الدولي للجرائم التي يرتكبها نظام دكتاتوري ليس مقتصرا على الثورة السورية. ففي النزاعات الداخلية، سواء كانت تطالب بالديمقراطية أو بحق تقرير المصير، غالبا ما كان المجتمع الدولي يقف متفرجا. وعندما تقرر بعض الدول الغربية التدخل، كانت تفعل ذلك في وقت متأخر للغاية، وبالتزامن مع حاجتها لتحقيق مصالح جيوسياسية معينة.
حدث ذلك على امتداد عقد تسعينات القرن الماضي في الحروب الأهلية التي اندلعت في يوغسلافيا السابقة. أبرز تلك الصراعات كانت حرب البوسنة حيث ترك المجتمع الدولي القوات الصربية تعيث خرابا وقتلا وتدميرا في البوسنة وتقوم بالتطهير العرقي دون أن يحرك ساكنا لمدة ثلاث سنوات. في ذلك الوقت، رددت الولايات المتحدة تبريرات مشابهة لتلك التي ترددها لتبرير التقاعس الدولي عن حماية المدنيين في سوريا. “لا يمكن لأميركا أن تكون شرطي العالم”، ردد وزير الخارجية الأميركي آنذاك في جلسات عديدة لمجلس الأمن كانت تنتهي من دون أي اتفاق على حماية المدنيين ووقف عمليات التطهير العرقي، وتؤكد بدلا من ذلك، وبصورة سريالية،على “الحل السلمي” للنزاع.
وكما في الحالة السورية، وجدت القوات الصربية كل الدعم من موسكو التي كانت خارجة للتو من تجربة انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكنها كانت لا تزال قادرة على حماية نظام التطهير العرقي بقيادة الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش.
تصاعدت انتهاكات القوات الصربية عاماً بعد آخر، وتزايدت جرائم الإبادة التي ارتكبتها، كما منعت قوافل المساعدة والإغاثة الدولية من الدخول للمناطق المستهدفة والتي يقطنها السكان المسلمون من البوسنة، بل واحتجزت قوات حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة. كل ذلك دفع الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الأميركي الجديد، في ذلك الوقت، بيل كلينتون إلى قرار إنهاء الصراع باستخدام القوة الأميركية.
أدركت الولايات المتحدة حينها أن الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع والتوصل إلى “حل سلمي”، كما دعت دائما، هو للمفارقة، استخدام مدروس للقوة العسكرية وتحقيق توازن عسكري بين الطرفين. هكذا شنّت قوات حلف شمال الأطلسي حملة قصف عنيفة للغاية على مواقع القوات الصربية. من ثم جمعت أميركا أطراف الصراع في مدينة دايتون وتمّ الاتفاق على إنهاء الحرب.
تبدو فصول حرب البوسنة وتفاصيلها وكأنها تعيد نفسها في سوريا ولكن بصورة أكثر مأساوية. منذ بداية الحرب السورية، كان لأي دارس لطبيعة النظام السوري أن يتيقن من عدم إمكانية حصول مفاوضات جدية طالما استمر التفوّق الكاسح للنظام السوري وطالما امتلك بصيص أمل بالنصر المطلق. عقدت الأمم المتحدة تسع محادثات سلام في مدينة جنيف انتهت جميعها لفشل تام.
وبدلا من أن يجري وقف جرائم النظام السوري عن طريق تحييد الطيران الحربي الذي كان يدك مناطق المعارضة ويرفع بصورة هستيرية من أعداد القتلى ويتسبب بأزمة لجوء ويمنع تشكيل مناطق ذات حكم ذاتي، قرر العالم إيصال رسالة للأسد مفادها أنه لا يوجد أفق حقيقي للمحاسبة. وصلت الرسالة بصورة رئيسية بعد تراجع الإدارة الأميركية عن توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد بعد استخدامه للسلاح الكيماوي في أغسطس من العام 2013.
ولكن عوامل أخرى ذاتية ساعدت في تعزيز التجاهل الدولي لمعاناة السوريين بخلاف ما حدث في النهاية في حرب البوسنة. ففي حين عملت القوات البوسنية تحت قيادة سياسية مركزية ومن خلال جيش موحد، وإن كان مسنودا بالميليشيات، بقيت الثورة السورية تعاني من اللامركزية الشديدة والتشتت والاقتتال الداخلي منذ انطلاقتها.
كما أعطى الخطاب الإسلامي المتشدد الذي هيمن على صفوف الفصال العسكرية للثورة منذ العام 2013 العالم ذريعة مناسبة لعدم التدخل. لم يحدث ذلك للقوات البوسنية رغم التحديات الكبيرة وجرائم التطهير العرقي، كما لم يحدث للثورة الفلسطينية رغم التفاوت الهائل في ميزان القوى بين الطرفين. ولكن الثورة السورية حدثت في زمن مختلف. إذ شهد العقد السابق لها تجذّر تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان والعراق. نتج عن تلك التجربة الآلاف من العناصر والقادة الجهاديين، وقد توافدوا إلى سوريا، أو خرجوا من سجون نظام الأسد مع اندلاع الثورة ليؤسسوا عددا كبيراً من الفصائل العسكرية. وأخيراً، تغيّر ميزان القوى العالمي في زمن الثورة السورية، إذ نما طموح موسكو على الصعيد العالمي وأكدت عودتها كقوة إمبريالية عالمية.
وقد كان دورها حاسما في صمود النظام السوري من جهة، ومنع أي تدخل دولي ذي معنى في الأزمة السورية من جهة أخرى. هكذا، ورغم أن التجاهل العالمي لمعاناة المدنيين في النزاعات الداخلية يبدو أمراً مألوفاً، لم يحدث أن استمر هذا التجاهل لسبع سنوات لم تتوقف فيها عمليات القتل يوما واحدا. من جديد، تسجل الذكرى السنوية السابعة للثورة السورية استثنائية وفرادة تلك الثورة ضمن سجلات التاريخ.

(*) كاتب فلسطيني سوري


العرب


المصدر
جيرون