مركز كارنيغي/ موسكو: إصابة الأهداف: لمن كانت رسالة بوتين موجهة



تتمحور فكرة بوتين حول السعي، بمساعدة الأسلحة، لإرغام الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا على إبرام اتفاق، تتمكن روسيا بواسطته من بناء اقتصادٍ، وفق النموذج الغربي داخل البلاد، دون أن تصبح البلاد ذاتها غربية من حيث الشكل.

ولكن ماذا سيحدث إذا لم يرضخ للتخويف الروسي؟

اعترضت كلمةَ بوتين مسألتان تتطلبان الحل.

المسألة الأولى: هل يكون الخطاب بمثابة برنامجه الانتخابي؟ وفي هذه الحال؛ هل سيتم تضمين البرنامج المنطلقات الاستراتيجية، التي أعدها فريق ألكسي كودرين، بالاشتراك مع غيرهم من الخبراء ذوي التفكير العصري والشامل، للفترة الرئاسية الجديدة؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن من البديهي أن يتسم جزء الخطاب بالتهدئة، وبخاصة الجزء المتعلق بالعلاقات الدولية.

وجاء الاقتراح بأن يقول بوتين في كلمته، مثلًا، إن وصول المجابهة إلى المستوى الحالي ليس ذنبنا (روسيا)، ونحن نقوم، فقط، بالرد على التحديات التي تفرض علينا، ونتخذ خطواتٍ إزاء التصرفات أحادية الجانب التي يقوم بها الغرب. وكذلك، أن يشير الخطاب إلى أننا سنقنع بما حققناه، ولكننا في الوقت نفسه، سنسير في الاتجاه المعاكس، من دون القيام بتصريحات ملزمة حول نزع السلاح.

تتطلب هذه المقاربة صياغة أمورٍ أخرى في استراتيجيات الأهداف، من قبيل زيادة الصادرات من غير المواد الخام، جذب الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، وكذلك المشاركة في الحياة الفكرية والرقمية العالمية الشاملة، وغيرها من أنشطة تقسيم العمل على المستوى الدولي.

تبين أن الإجابة كانت إيجابية، على أول سؤالين. فقد كانت كلمة بوتين برنامجًا انتخابيًا بامتياز؛ إذ تضمنت رؤية مستقبلية، ولم تقتصر على الحاضر والماضي. وقد ظهرت هذه الأمور في بعض المقاطع، وفي عددٍ من النقاط كتكرارٍ لاستراتيجية كودرين وفريقه. باستثناء أمرٍ واحد، فإن تهدئة المجتمع السياسي في الغرب، وقبل كل شيءٍ في الولايات المتحدة الأميركية، ليست الوسيلة الضرورية لإعادة النهوض الاقتصادي، إذ يمكن تخويف هذا المجتمع بشكلٍ قوي! وإذا نجح التخويف؛ فإن المجتمع الغربي سيضطر إلى قبول روسيا في عالمٍ جديد، حديث، عالي التكنولوجيا.

أما المسألة الثانية المتعلقة بالإجابة على سؤال: ماذا سيحدث إذا لم يخفِ الغرب؟ فإن بوتين لم يتطرق إليها في كلمته إطلاقًا.

رسالة الياقات البيضاء

انقسم خطاب بوتين إلى عناوين أعلنها بنفسه. بدا الجزء الأول، وكأنه يحاول استرضاء الطبقة الحضرية الوسطى، وأصحاب المشاريع الخاصة وذوي الياقات البيضاء. ويمكن من هذا الخطاب تلمس تراجعٍ عن النظرية الشعبية المحافِظة التي سادت، خلال الفترة الرئاسية السابقة، عندما راحت السلطة، بدلًا من الاعتماد على قاعدة المواطنين المثقفين (ولكن ناكري الجميل)، تبحث عن الدعم لدى بسطاء الناس وفي قيمهم، وعلى التوازي، كانت تقوم باختراع هذه القيم. لم يشر الخطاب لا إلى المسيحية ولا إلى الكنيسة ولا إلى الأديان، في حين جاء الحديث عن التقاليد والقيم الروحية، بمعزلٍ عن الأنشطة المدنية، التي تنظر إليها الطبقة الوسطى كعملٍ تطوعي في المقام الأول.

ولكن الحديث تكرر مراتٍ عديدة، حول انطلاق “منصاتٍ رقمية، تتوافق مع الفضاء المعلوماتية العالمي”، وعن تحديث البيئة الحضرية، والتجمعات والبلدات العامرة بشبكات الاتصال والمواصلات المرتبطة بالمراكز الحضرية الكبرى، عبر مواصلاتٍ حديثة، بحيث يصبح سكان المدن الصغيرة متطلبين ومتقلبي المزاج، كسكان الحواضر المدنية الكبرى.

لم يتضمن الخطاب أي إشارةٍ إلى الإصلاح الحكومي، وإلى خفض حصة الدولة في الاقتصاد، أو الخدمات الصحية عبر الإنترنت، أو إتاحة إمكانات العالم الرقمي للمواطنين، ولا حتى عن الأبحاث الجينية (الكافرة).

فبالطبع، فيما يخص “الإصلاح”، من غير اللائق برئيسٍ موجود على رأس السلطة منذ 18 عامًا أن يعلن في خطابه الانتخابي عن برنامج إصلاحاتٍ واسعة، ولكن فكرة “كودرين” التي تتضمن إطلاق عملية رفعِ معدلات النمو الاقتصادي، تقوم على أساس اقتصادٍ رقمي حديث، وعلى ضخ الاستثمارات في الطب والتعليم، وكذلك تغيير صورة المدن وتحديث البنى التحتية، من دون استخدام مصطلحات استراتيجية كـ “الرأسمال البشري” و”محرك النمو”.

أشار الخطاب إلى قطاع الطيران من خلال المواصلات، وليس كصناعة طيران وطنية. لذا، من غير المرجح أن ترضي كلمة بوتين مؤيدي الاقتصاد الصناعي الكلاسيكي، ولكن يفترض بها أن ترضي أنصار ما بعد الصناعة.

في كل كلماته السابقة، كان بوتين يحاول الظهور بمظهر الرجل المعاصر، ولكن هذا الخطاب تميّز من غيره، بأنه كان خطابًا انتخابيًا، يتحدث عن فترة ست سنواتٍ جديدة أو أكثر، ولا يعتمد على الارتجال الفردي، بل على استراتيجياتٍ ضخمة، كتبها ليبراليون يحملون قناعاتٍ راسخة بالأنظمة.

للناخبين البسطاء

كان الجزء الثاني من الخطاب مكرسًا للتعويض عن الأثر الذي خلقه الجزء الأول، ولكن احتمال تعويض الأثر حتى إلغائه تمامًا، هو احتمالٌ كبير. فجزءٌ من البيروقراطية الروسية ليست مسرورةً من تكريس السنوات الست القادمة، لبرنامج ليبراليي الأنظمة. يمثل جزء البيروقراطية الروسية هذا أولئك البيروقراطيين الذين كانوا يحلمون بنموذجٍ حكومي قائمٍ على للصناعات الثقيلة المعتمدة على الاستقلالية والسيادة في كل شيءٍ، والتي لا تعتمد على علاقاتٍ ماليةٍ مريبة وعلى الاستثمارات والمنصات العالمية. وها هم يحصلون بدلًا من ذلك على الصواريخ. ومن الغريب، أن تثير الكلمات التي تحدثت عن الصواريخ التي تدمر عدوًا مفترضًا (وبالتأكيد وراء المحيط)، عاصفةً من التصفيق من جمهور القاعة من البيروقراطيين والنواب. بدا المشهد، وكأنهم أصابوا هدفهم بالفعل. بالنسبة إلى القسم الأكبر من الناخبين، الذين يغلب على تفكيرهم الطابع القديم السائد، في وزارتي الصناعات الثقيلة والمعادن، فإن لغة التغريد الرقمي غير مفهومةٍ، لذا فقد أعجبهم الحديث عن الصواريخ المرعبة. وهذا الهدف الثاني من الخطاب تمت أيضًا إصابته بدرجةٍ كبيرة من الدقة، على الرغم من أن “كودرين” لم يصرف على هذا الهدف الكثير من الجهد. ولكن هناك هدفًا ثالثًا آخر.

المراقبون الأجانب

المستهدف الأهم، الذي توجه إليه الجزء الثاني من الخطاب، هو الجمهور الغربي. فله بالذات يرسلون هذه الإشارة، ومفادها: نعم، نحن نتحدث عن ست سنواتٍ مقبلة بلغة التكنولوجيا العابرة للقوميات، وعن الاستثمار والمنصات الرقمية. ولكن إذا ظننتم أن ذلك يعني نزع السلاح من جانبٍ واحد، وإذا اعتقدتم أن ذلك نابعٌ عن تفكيرٍ جديد؛ فإنكم ترتكبون خطأً. نحن لن نهدر انتصاراتنا السياسية الخارجية، ولن نتنازل لا عن صوتنا الذي أصبح مسموعًا، ولا عن وضع الدولة العظمى التي وصلنا إليه في خضم المعارك. وكما قال دوستويفسكي: “نحن نعترف بالله، ولكننا لا نقبل بعالمه”. ونحن بدورنا نقول: فلتكن التكنولوجيا والخدمات الرقمية ومن ورائها السلطة، إلى جانبهم، ولكن العالم مركب بصورةٍ غير عادلة، ونحن سنواجه هذا الأمر.

يجب التخلي عن الفكرة التي تقول إن الغرب يسخر من السلاح الروسي الجديد الذي استعرضه الخطاب، والمصمم بـ طريقة D 3، فالعالم لا يرى السلاحَ والصواريخ الكورية الشمالية -وهي أكثر تخلفًا من الناحية التكنولوجية من السلاح الروسي- أمرًا مضحكًا.

ماتروشكا* جديدة

يلاحظ تناقضٌ واضح، بين الجزء الأول والثاني من الخطاب. فكيف يمكن أن نكون جزءًا من التبادل العالمي في مجال المال والاقتصاد والتكنولوجيا والعلم، وفي الوقت نفسه، نهدد الغرب بأسلحتنا الجديدة؟ فالغرب في هذه الحالة، لن يقبل التبادل المالي والتكنولوجي مع روسيا. غير أنه من زاوية معينة، ليس هناك أي تناقض، فروسيا تبدو من خلال رسالة هذا الخطاب كالـ “ماتروشكا” الروسية التقليدية، ولكنها من الداخل رقمية، تلبس معطفًا قصيرًا ونظاراتٍ محببة، أما من الخارج، فتلبس اللباس العسكري المموه. وعلى هذا المنوال أيضًا تعمل المكنة الحكومية: داخليًا، يتكفل التكنوقراط والاقتصاديون وكبار المديرين بتحقيق النمو، في حين يتولى الرئيس والكتلة الحربية- الدبلوماسية حماية هذا النمو من القوى المعادية، بقوة السلاح.

أكثر من الاتحاد السوفيتي

حتى الآن، لا يزال الرأي العام الدولي وكذلك في روسيا يعتبر أن روسيا تلحق بالاتحاد السوفيتي، عندما تتخطى العجز الذي كانت تعاني منه في تسعينيات القرن الماضي. وقد أكد بوتين في الخطاب مراتٍ عديدة الحديث عن اللحاق، وسبق الاتحاد السوفيتي في: إنتاج الحبوب، حجم الحمولات في الموانئ، وأخيرًا الأسلحة. لقد اعتقدتم أن روسيا نسخة ضعيفة من القدرات العسكرية السوفيتية، ولهذا خرقتم اتفاق الصواريخ الباليستية، ولكن روسيا في حقيقة الأمر أصبحت أقوى، وعليكم الآن إبرام اتفاقية جديدة! وفي الوقت نفسه، ما زلنا أمام سؤالٍ من دون إجابة: وماذا لو لم تحفز الأسلحة الروسية الانتقال إلى مرحلة التعايش السلمي، كما حدث في فترة السباق النووي السوفيتي- الأميركي، وأصبحت، بدلًا من ذلك، سببًا لإطلاق جولةٍ جديدة، من سباق التسلح والعقوبات والحظر غير المعلن. فبماذا سترد روسيا وقتها؟

تغيرت المفاهيم؛ فهي ليست بإحياء الاتحاد السوفيتي، وليست بأن تصبح روسيا جزءًا من الغرب، بل ببناء غربٍ اقتصادي تكنولوجي داخل روسيا، دون أن تصبح غربية من حيث المظهر. على عكس الاتحاد السوفيتي أو الدول الحديثة كإيران، السعودية، فنزويلا، كوريا الشمالية، لا يقترح على المواطنين الروس أسلوب حياةٍ مختلفٍ تمامًا عن نموذج الحياة الغربية، بل يعرض عليهم نموذج الحياة الغربي، ولكن في إطارٍ سيادي كامل، على مبدأ “مثلهم، ولكن من دونهم”. هذه المحاولة للدمج بين الاقتصاد العالمي ما بعد صناعي، وبين مفهوم عصر الصناعة السيادية، عندما لم تكن الدول العظمى ذات المستوى المتماثل، من حيث التطور، جزءًا من كل كامل من ناحية الأيديولوجية والأمن، وكان يمكن أن تكون في حالة العداوة أو التحالف، بحسب مصالحها الآنية. سيكون هدف الطريق الخاص الذي ستسلكه روسيا، خلال الفترة الرئاسية الرابعة لفلاديمير بوتين، عبارةً عن محاولة وضع المضمون الاقتصادي المعاصر في إطارٍ تقليدي، يعتبر شكلًا تقليديًا عسكريًا-سياسيًا باليًا.

*ماتروشكا: لعبة تذكارية روسية تمثل امرأة روسية بثيابٍ تقليدية مزخرفة، في داخلها لعبٌ عدة مماثلة أصغر فأصغر، داخل بعضها البعض.

اسم المقالة الأصلية Поражение целей: кому предназначено послание Владимира Путина كاتب المقالة ألكسندر باونوف/ رئيس تحرير كارنغي موسكو مكان وتاريخ النشر  مركز كارنيغي / موسكو. 1 آذار 2018 رابط المقالة http://carnegie.ru/2018/03/02/ru-pub-75694

ترجمة سمير رمان


سمير رمان


المصدر
جيرون