الذكرى السنوية الثالثة لرحيل أمير شعراء السويد



توماس ترانسترومر أحد أبرز الشعراء العالميين، في القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين. هو أمير شعراء السويد، وشاعر نوبل لعام 2011.

ولد في ستوكهولم، في 15 نيسان/ إبريل 1931، غير أنه أمضى معظم حياته في مدينة فيستيروس القريبة إلى ستوكهولم، ليعود في أواخر حياته برفقة زوجته مونيكا إلى ستوكهولم. كان، إلى جانب شهرته كشاعر، اختصاصيًا معروفًا في علم النفس، وعازف بيانو ماهرًا، ومترجمًا للشعر السوريالي من الفرنسية إلى السويدية.

تُرجِمت أعماله إلى قرابة ستين لغة، منها العربية؛ إذ قام علي ناصر كنانة بترجمة مختارات شعرية لترانسترومر، تحت عنوان (ليلًا على سفر) وذلك عام 2003، ثم قامت دار “بدايات للطباعة والنشر” في 2005، بإصدار أعماله الكاملة التي ترجمها قاسم حمادي من السويدية إلى العربية.

من المعروف أن توماس ذو ثقافة عالية، أسسها خلال دراسته الجامعية، حيث درس علم النفس وتاريخ الأدب، كما درس تاريخ الأديان، وإن كان لا يذهب إلى الكنيسة.

أصيب عام 1990 بجلطة دماغية، أورثته شللًا نصفيًا في الجانب الأيمن، وأفقدته جزءًا كبيرًا من قدرته على النطق. غير أن ذلك لم يمنعه من كتابة الشعر، والعزف على البيانو، فقد قام بعض المؤلفين الموسيقيين بتأليف مقطوعات عديدة مخصصة لتوماس وللعزف باليد اليسرى. وبعد أربع سنوات من فوزه بجائزة نوبل، رحل توماس عن دنيانا. كان ذلك يوم الخميس 26 آذار/ مارس 2015.

في الذكرى السنوية الثالثة لرحيله، أحاول استحضاره عبر بعض الذكريات والانطباعات.

في 27 تشرين الأول 2005، وصلت إلى ستوكهولم ككاتب ضيف على المدينة لمدة سنتين. حينئذ كتب إلي صديقي الشاعر الهولندي مارتين موي، يسألني إن كنت التقيت بالشاعر توماس ترانسترومر، فسألته أن يرسل إليّ العنوان، غير أن مونيكا، زوجة توماس، كانت أسرع مبادرةً، إذ اتصلت بي، ورتَّبنا أمر زيارتي لهم، على أن تمرّ الروائية ماريا موديج إلى بيتي، وتصطحبني معها.

عرفت ماريا موديج، أول مرة، في مؤتمر نادي القلم العالمي المنعقد في برشلونة عام 2004. سألتني حينذاك عن رأيي، إن هي دعتني للإقامة سنتين في ستوكهولم. قلت لها إن سنتين زمن طويل وأنا لم أرتوِ، بعد إطلاق سراحي، من رؤية أهلي وأصدقائي في سورية. كنتُ حينئذ في هولندا، أنتظر انتهاء العام الدراسي في جامعة ليدن، لأودِّع طلابي في قسم اللغة العربية، وأعود إلى سورية. في المحصلة، اتفقنا على أن تُوجَّه لي دعوة ستوكهولم بعد عودتي إلى سورية، بسنة كاملة.

كانت ماريا في ذلك الوقت رئيسة لجنة (كُتَّاب في السجن)، ضمن نادي القلم السويدي، وهي صديقة مقرَّبة لتوماس ومونيكا، وهكذا وصلنا إلى بيتهما دون قلق ينتابني عادة، كلما نويت الذهاب إلى عنوان ما، ذلك لأني من أهل الكهف، وشاءت الأقدار أن تنقلني دفعة واحدة من الكهف إلى أوروبا!

لم يسبق لي أن رأيت امرأة تجمع في شخصها كل ما تجمعه مونيكا، من ثقافة وأناقة وثقة وحميمية وبساطة وتواضع وتضحية وجمال. كان ذلك أول بيت سويدي أدخله، ومنه ومن أهله وأصدقائهم، تشكّلت انطباعاتي الأولى عن المجتمع السويدي، وما زالت الانطباعات تعزِّز نفسها، عامًا بعد عام، رغم وجود بعض الاستثناءات أو نسبة ما، تخالف تلك الانطباعات.

حين سألتُ توماس عن علاقته بالكتابة، خلال السنوات الماضية، أتتقدم أم تتراجع، قال لي عبر مونيكا: “حياتي أشبه بمعركة، وأنا أقاتل بالكلمة”. كأن توماس يكتب لمونيكا مواقفه التي يكثر طرح أسئلتها عليه.

يتبدى لي توماس، كلما التقينا، بصورة هي مزيج من طفولة غامرة ومهابة عاتية. هو يعتبر صمته مقدسًا، وحين تصغي إلى صمته وتراقب نظراته، فإنك تقتنع بأنه يمكن أن يقول بصمته ما يستعصي على الكلام. كيف لرجل أن يجمع مثل هذه النقائض؟!

مونيكا ذات حضور واثق وآسر ورقيق. وهي تتولى الإجابة عن توماس، في كثير من الأمور، وهي تمضي قدمًا، ما دام توماس يهز برأسه إيجابًا، غير أن توماس يعترض بشدة حين لا تكون إجابتها دقيقة.. عشرة عُمر، ومونيكا تعرف كل شاردة وواردة في حياة توماس وفي أشعاره. يمكن لتوماس أن يقول كلمة واحدة أو إشارة واحدة، تكفي لدفع مونيكا إلى إحضار بعض الكتب أو الصحف أو إلى حديث طويل، تراقب خلاله ردات فعل توماس.  مونيكا هي يدا توماس ولسانه وأذناه.

كلما زرتهم؛ شعرت بأن توماس ينتظر أن أسأله إن كان يرغب في العزف على البيانو. مقطوعات عديدة من تأليفه وتأليف موسيقيين مشهورين، كتبوا مقطوعاتهم خصيصًا لتوماس وللعزف باليد اليسرى.

كنت أقول له إن ترجمة شعره ربما نجحت بدرجة عالية في الحفاظ على الشعرية التي غالبًا ما تقوِّضها الترجمات، وأردفتُ أنني، كلما قُرِئت قصائدي مترجَمةً؛ شعرت بالانقباض. رموز وإحالات لغوية وتاريخية كثيرة لا بدَّ أن تُفقِدها الترجمة الكثير من ظلال معانيها وجمالياتها.

قالت لي مونيكا، وهي تستمع إلى شكواي وقلقي: “توماس بعكسك”. قلت: أدري، فقد قرأت الكلمة التي وجهها إلى القارئ العربي، في مقدمة الطبعة العربية لأعماله الكاملة.

يقول توماس في كلمته: “كنت كلما سُئلتُ عن نظرتي إلى الشعر المترجم؛ أجبتُ إن الشعر في الأصل هو في حد ذاته ترجمة. القول الشعري بيان لقصيدة غير مرئية خلف اللغات المتعارف عليها، لذا تصبح الترجمة، إلى لغة مختلفة، نوعًا من محاولة أخرى لتحقيق واقعية القصيدة الأصل”.

قدَّم لي توماس الطبعة العربية لأعماله الكاملة، مع إهداء لم يزد عن وظيفته حرفًا واحدًا: “من توماس إلى فرج”. أهديته نسخة سويدية من كتابي (خيانات اللغة والصمت)، وقد كنت سعيدًا بالتحلّل من بلاغة الإهداءات بالعربية؛ إذ اكتفيت بإهداء مماثل.

بعد أن قرأ توماس ومونيكا كتابي “خيانات اللغة والصمت” المترجم إلى السويدية؛ كتبا، أو كتبت مونيكا، إليّ رسالة مؤثرة ما زلت أحتفظ بها:

“عزيزنا فرج، شكرًا لك على كتابك. لقد قرأناه. ويا لها من قراءة مروعة، لكن رغم ذلك ينبغي القول أيضًا إنه كتاب ممتاز. توماس أعجب جدًا وتأثّر كثيرًا!

تحيات حارة من توماس ومونيكا”.

صارت صداقتنا حميمية، وسألني عن رأيي بصديقه أدونيس، فأبلغته بقناعاتي المكتوبة والمنشورة، وقد حزنت على حزنه، وتمنيت لو أنى تهرَّبتُ من سؤاله.

في 2010، قرر نادي القلم السويدي الاحتفاء بي، لأن نادي القلم العالمي اختارني واحدًا من خمسين كاتبًا في العالم، كحالة رمزية للاحتفال بمرور خمسين سنة على تشكيل “لجنة كتّاب في السجن” التي دافعت عن آلاف الكتّاب الذين تعرّضوا للاعتقال.

دعا نادي القلم الصديق الشاعر غياث المدهون، ليقرأ خلال الاحتفاء قصيدته التي كتبها عني، وكذلك الشاعرة السويدية ماري سيلكاباري، ودعا توماس ترانسترومر للمشاركة بإحدى قصائده التي يراها ملائمة على أن يلقيها الممثل السويدي الشهير Krister Henrikson

لم يكن أمامي من طريقة لرد الجميل سوى أن أطلب من مدير المنصة، الصديق الشاعر جاسم محمد، أن يتيح لي قراءة الترجمة العربية لقصيدة توماس، بعد أن يقرأها بالسويدية الممثل .Krister Henrikson

بعد الاحتفالية، قال لي أحد المغرِضين: هل حقًا كنت ترغب في قراءة قصيدة توماس بالعربية، أم كنت ترغب في أن تكون على الخشبة أنت وأشهر الممثلين السويديين؟

كتبتُ مرارًا عن المثل العربي القائل “يد واحدة لا تصفِّق”، وكنت أقول “نعم، لا تصفّق، ولكنها قد تصفع، وقد تقتلع عيونًا”. توماس ترانسترومر كتب العديد من قصائده باليد اليسرى، وعزف مقطوعات موسيقية كثيرة بيده اليسرى. يدٌ واحدة قادرة على فعلٍ ما، هو أهمّ من التصفيق بكثير.

توماس ترانسترومر شاعر كبير وإنسان كبير وطفل كبير في الوقت نفسه. وهو على قدر من التواضع الجميل، لا يعدله سوى مكانته الإبداعية العالية.


فرج بيرقدار


المصدر
جيرون