الطاعون ودلالته الرمزية



“لسنا ننشد عالمًا لا يُقتل فيه أحد، بل عالمًا لا يمكن فيه تبرير القتل”

ألبير كامو

بعد أن عهد إلى نفسه أن يكون مناصرًا للفقراء الذين ينتمي إليهم، وبعد أن ناشد العالم ونظراءه من الفلاسفة والمفكرين، البحث عن الحقيقة الكونية، على الرغم من يقينه بعدم الوصول إليها؛ قرر ألبير كامو أن يقبل بعبثية الحياة، ويعمل جاهدًا لعدم تبرير القتل والعنف المتفشيين في العالم. فكتب (سيزيف) عام 1942 الفتى الإغريقي الذي قُدّر له الشقاء في إصعاد الصخرة إلى الجبل، وإعادتها كلما تدحرجت إلى الأرض، ليعلن كامو تمرده على الانتحار الوارد في مقولة شبنهاور: “طالما أن الحياة بلا معنى، فلنقض عليها بالموت الإرادي أو الانتحار”، ثم كتب روايته (المتمرد) عام 1945. وكانت رواية (الطاعون) عام 1946، تتويجًا لما سبقها بالرمزية والإيحاء إلى تفشي العنف والحروب في العالم، وتخاذل الحكومات تجاه شعوبها، وحبها الموت مقابل الحياة، (موت الجماهير لتعيش السلطة).

يبدأ كامو من “وهران” المدينة الجزائرية، حيث تفشى فيها الطاعون، وبدأ الموت يتغلب على الحياة بطريقة عبثية، فما كان من الحكومة إلا إقفال المدينة، لظنّها أن الطاعون يأتي من الخارج. يصف كامو موت الجرذان في الأحياء والحدائق والشوارع، من ثم تتصاعد الأحداث لتختلط جثث الجرذان بجثث البشر، أينما ذهب الراوي، يكشف للقارئ والقارئة عن مئات من الموتى في اليوم الواحد، فيرتفع خط الوصف للطاعون، حيث ينتهي بنهاية الرواية، فتفتح أبواب المدينة وتعود إلى ما كانت عليه في السابق.

تناولت شخصيات الرواية طبقات مختلفة من المجتمع، الطبيب والصحفي والقاضي ورجال الأمن ورجال الدين، والكتّاب والشعراء والفنانين. الوباء قد وقع على الجميع، لكن أكثره قد طال الطبقة الشعبية غير المحصنة من خطر العدم، من ثم تطرح أسئلة حول ماهية القدر والحالة الوجودية للإنسان، متضمنة فكرة الحرية، من خلال إقفال المدينة وتحوّل سكانها إلى سجناء دون إرادتهم، ينتظرون الموت المحتوم، ولا يعرفون متى سيأتي حتفهم، تمامًا كالسجين الذي لا يعرف متى سيُنفذ فيه حكم الإعدام.

شخصية الطبيب (ريو) القابلة للتبدل مع ظروف الحياة، كانت نموذجًا للإنسانية المتفوقة على الاختلاف السائد في المجتمع، لا لكونها شخصية مهنية تتصف بالإنسانية؛ بل لأنها شخصية تؤمن بالوجود الإنساني المجرد، الذي يتمرد على الموت مقابل وجوده وكينونته. الطبيب (ريو) الذي سافرت زوجته إلى خارج المدينة لتلقي العلاج من مرضٍ لم يُعلمنا به، هو نفسه الذي اكتشف الطاعون، وسخّر كل إمكاناته المهنية والإنسانية لعلاج أهل المدينة الذين انقلبوا إلى أشباح، إبّان اجتياح الطاعون.

لم تكن وهران إلا مسرحًا لأحداث لم تشهدها، فوضع كامو عبثية الحياة المتمردة، مقابل عبثية الموت والعدمية، ولم يكن الطاعون إلا وباءً بشريًا حقنته الحرب بمصل مضاد للحياة والوجود الإنساني، كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي جعلت معدّل الموت أكبر من معدل الحياة، وأضخم، وقد حاذت الرواية زمن الغزو النازي لفرنسا، حيث انهارت الحكومة الفرنسية أمام ألمانيا، فحررتها دول الحلفاء، لكن كامو ابتعد عن النموذج الفرنسي، إذ ابتدع حلًا جماعيًا للطاعون، فقد حرّك جميع الجهات المدنية والسياسية والثقافية، لتحدي ذلك الوباء الذي استنزف الطاقات الحيوية في المدينة. بذلك يكون كامو قد قدّم نفسه، من خلال الرواية، فيلسوفًا وجوديًا عبر الألم والخوف والتفكير في مواجهة الموت، ومؤمنًا بذاته وبالعلم، مقابل الإيمان بالدين الذي صوره كامو عاجزًا عن المشاركة في أوقات الشدة، إلاّ بالدعاء والابتهال والاستغفار، من خلال تقدّيم الأب (بانولو) عظتين متناقضتين: الأولى أثناء اجتياح الطاعون للمدينة، بأن الطاعون ليس مرضًا أو وباء، فهو بلاء قد أرسله الرب كعقاب لأهالي المدينة غير المؤمنين، وعليهم أن يخرّوا راكعين طالبين التوبة والمغفرة، والثانية في نهاية البلاء الإلهي حسب تفكيره، يهلل فيها للأهالي، بأن هذا البلاء هو امتحان لصبرهم على فراق أحبتهم الذين فرقهم الطاعون، مبشرًا إياهم بالجنة وحسن الآخرة، بينما الطبيب وفريقه يركضون لاهثين خلف العلم، لاكتشاف أمصال جديدة تحدّ من تفاقم المرض، هذه المفارقة، بين العلم والدين، تضع الإنسان أمام تحديات معرفية تفصل بين عالمين متناقضين: العالم الواقعي الملموس والمحسوس، والعالم الميتافيزيقي الموجود في المخيلة، وصاحب السلطة الإلهية، والسلطة النيابية عن الإله، المتمثلة برجال الدين.

قد لا نذهب بعيدًا في تفكيرنا برواية كامو، فالطاعون أمامنا لا يبتعد عن كل واحد منّا سوى كيلومترات، الطاعون السوري الذي لم يأت من الخارج، وقد تفشى في أصقاع سورية معلنًا الموت الأبدي، ومعلنًا اليأس من تكافل اجتماعي، ظهر على الساحة السورية إبان الحرب، متمثلًا بمنظمات المجتمع المدني التي كانت معطلة بفعل السلطة، ويذكرنا كامو بقرع أجراس الكنائس، ورفع مآذن الجوامع، وإلقاء الخطب الدينية التي تدعو الله لإيقاف الحرب، حتى إن الشعب السوري لاذ في مقولة “ما إلنا غيرك يا الله“.

نستخلص من الرواية أن وهران هي رمز لكل مدينة في العالم اجتاحتها الحرب. الطاعون هو الحرب، هو الاعتقال، هو السلطة الديكتاتورية، هو السلطة الدينية والسلطة الأمنية، هو كل ما يعوق حرية الإنسان، ويعرقل وجوده، طاعون كامو هو العالم الذي يسير نحو الهاوية.

على الرغم من نهاية الرواية السعيدة التي ولدّت التفاؤل من قلب الألم واليأس، بإعادة المدينة إلى حالتها الطبيعية، ولمت شمل المشتتين، وأعادت الأهالي إلى السباحة وسماع الموسيقى، فإن السؤال يبقى موجودًا وملحًا: متى ينتهي الطاعون من هذا العالم الموبوء؟

يخطئ من يظن أن الطاعون لم ينتشر في سورية كلها، ولم يصب السوريات والسوريين جميعًا، ويخطئ العالم الذي عزل الشعب السوري وحاصره باللامبالاة؛ إذا ظن أنه في منجى من الطاعون. الطاعون لا يفتك في الأجساد فقط هذه المرة، بل يفتك في النفوس والضمائر والعقول.

الطاعون رواية من تأليف ألبير كامو، ترجمة سهيل إدريس.


أنجيل الشاعر


المصدر
جيرون