دمشق.. حين تنام وتستيقظ على هدير الطائرات



عندما سأله مراسل قناة (euronews) الأوروبية: “كيف تعيشون حاليًا تحت القصف والحصار؟”، قال أكرم أبو الفوز، الشاب السوري الذي رفض أن يغادر مدينته دوما: الأفضل لو كان السؤال كيف تموتون؛ لأن الحياة التي نعيشها ليست حياة إنسانية.

يمكن لنا أن نسحب إجابة هذا الشاب على واقع آلاف المدنيين، في مدن وبلدات الغوطة الشرقية، التي تخضع لحرب إبادة منظمة منذ سنوات. فمن حيث النتيجة، لا فرق بين الموت جوعًا بسبب الحصار، أو الموت قتلًا بنيران المدفعية والطائرات. في كلتا الحالتين، يلفظ الناس أنفاسهم على يد قاتل واحد، ويُشيعون إلى قبورهم بطقس جماعي.

تبعد دوما عن ساحة المرجة، الوسط التجاري للعاصمة، نحو تسعة كيلو مترات. وهي مسافة تسمح لأصحاب المحال التجارية الموزعة على شكل هلال، أن يصغوا باهتمام، لصخب الانفجارات، وارتداداتها القادمة من ضواحي قريبة، لا تغيب عن العين من علو.

قبل قرن تقريبًا، شهدت هذه الساحة إعدام القافلة الثانية من شهداء، ناضلوا من أجل أن ينال شعبهم حريته، وفي مطلع عام 2011، شهدت أولى انتفاضات الشعب ضد ظلم واستبداد نظام ديكتاتور شاب، حوّل البلاد إلى سجن كبير. أحد أصحاب المحال أشار بيده إلى نصب متواضع بجانب جسر صغير، تعبر من تحته مياه بردى، قال إنه يضم أسماء سبعة وطنيين، استشهدوا عام 1916، على أعواد المشانق، هو آخر ما تبقى من ذكراهم.

في حصيلة أولية لضحايا الحرية الجدد، أعدم الأسد أكثر من نصف مليون من مواطنيه، وأودع مثلهم في سجون ومعتقلات لا ترى الشمس. وعطل حياة نحو مليون آخرين لإصابات بالغة في أجسامهم، تعرضوا لها في أثناء القصف، كما حوّل نصف شعبه إما إلى لاجئ خارج الحدود، أو نازح في الداخل، لا يملك من متاع الدنيا غير مفتاح بيته الذي دمّرته الطائرات.

تابع صاحب المحل هامسًا: منذ شهر، والمدينة ترتجف، كلما انطلقت قذائف المدفعية المتمركزة في معاقل الحرس الجمهوري، الذي تنتشر معسكراته خلف قمة جبل قاسيون، أو أطلقت طائرات (سوخوي) و(ميك) الروسية صواريخها، نحو المناطق المتاخمة لحدود المدينة الجنوبية.

هنا تبدو الحياة كئيبة؛ فدمشق التي كانت تزهو بجمالها، تحولت إلى معسكر لميليشيات طائفية، تفرض قوانينها على الحياة العامة، متخذة “الحرب على الإرهاب” ذريعة، كي تدافع عن نظام قاتل يواجه طموحات شعبه. وخلف الكآبة الصامتة، تخفي شوارع وساحات دمشق، أجواء حرب غير معلنة. فالجنود ورجال الاستخبارات الذين يظهرون بعرباتهم الخاصة، على نحو مفاجئ، يقطعون الطرق، ويدققون بهويات المارة وركاب الحافلات، بحثًا عن سياسيين أو ناشطين في الثورة أو فارين من الخدمة العسكرية الإلزامية. وعلى الجميع أن يحبسوا أنفاسهم، ريثما يتمكنوا من مواصلة سيرهم بسلام.

المارة الذين يتوجهون إلى مقار عملهم الرسمية، في الثامنة صباحًا، يباشرون يومهم على إيقاع هدير الطائرات، والانفجارات القوية، ولعلعة الرصاص. وفي أحيان كثيرة، يشد أنظارهم انتشار الأدخنة، المعبأة برائحة البارود، وهي تتصاعد من المناطق القريبة، بعد أن تكون الطائرات الحربية والمدفعية المتمركزة في أعالي المدينة، قد أنجزت مهمتها الحربية على أكمل وجه.

يؤيد الموالون للأسد علنًا استهداف الجيش العقائدي لمواقع المعارضة. وعبر ما يبثه التلفزيون الحكومي، من تقارير تشير إلى انتصارات ساحقة على أعداء الوطن، يتابع هؤلاء سيرها. لكن الغالبية، وبعض المثقفين، على خلاف آخرين منتمين إلى المؤسسة الثقافية الرسمية، لم تعد تقنعهم الرواية، ليس بسبب صور الدمار ومصارع الأطفال والنساء المروعة، فحسب، بل لأن الدماء التي تسيل، ليست في نظرهم سوى لسوريين مثلهم، مدنيين أبرياء، تغتالهم آلة الحرب في غفلة من الضمير.

حين أطلق ناشطون سوريون هاشتاج (أنا عايش)، على مواقع التواصل الاجتماعي، في اليوم الثاني عشر لبدء الهجوم، تفاعل معظم هؤلاء معه، ودعموا صوت الأطفال المحاصرين داخل الغوطة الشرقية، الذين لم يمنعهم الدمار والموت، من مخاطبة العالم الصامت على ما يجري، بصوت مكلوم: إننا ما زلنا على قيد الحياة.

أي حياة وسط دائرة نار ملتهبة؟ يتساءل “ياسين ع”، ابن حي الميدان الدمشقي، الذي ورث عن والده مهنة تسويق البقوليات، في أحد الأسواق الشعبية المخصصة لهذا النوع من التجارة. إنه يستغرب من فظاعة الحرب التي يخوضها الأسد: “لقد أصبح عمري 79 عامًا، عاصرت الحروب الطاحنة التي جرت بيننا وبين (إسرائيل)، وعشت صغيرًا مآسي الانقلابات العسكرية التي شهدتها دمشق، منتصف القرن الماضي، لكنني لم أشاهد عنفًا داميًا كالذي تتعرض له البلاد”. وتابع: “إن ممارسة القوة العمياء بهذه الطريقة، لإخضاع الناس، أو معاقبتهم، أمرٌ لا مثيل له في التاريخ السوري”.

فقدَ ياسين أحد مستودعات تجارته في الغوطة، بعد أن دمرته الطائرات الروسية، وأبنية مجاورة له، من الوجود. يقول: “يسألوني كثيرًا، كيف تعمل اليوم، أقول لك بصراحة، لقد تحولت مدننا بشكل عام، إلى مدن أشباح، تخضع لقوانين الحرب. الأسواق التي كانت صاخبة بالتجارة في يوم ما، أصبحت بقعة مروعة، تشبه ما ينتج عن زلزال عنيف لم يترك للحياة أي أثر. ما الذي يجري ولماذا؟ أنا لا أفهم حتى اللحظة، كيف يجري تدمير وسحق الحياة بهذه الفظاعة، من دون أن يتدخل المجتمع الدولي، ويضع حدًا لمأساة مضى عليها أكثر من سبع سنوات”.

يقول عضو في منظمة إنسانية ما تزال تمارس أنشطتها: إن ما تتعرض له المناطق المتاخمة للمدينة أثّر في حياة الناس. في أحياء الجسر الأبيض والسبكي والروضة، تصل أصوات القصف المرعب إلى أسماع السكان. الآن، أدرك الجميع أن العاصمة التي كانت تشكّل، حتى وقت قريب، منارة لثقافات متنوعة، مزدهرة، أضحت جريحة، تتدفق الدماء بسخاء من أطرافها. وأكثر أولئك الذین ما زالوا یقطنونها باقون، لأنھم لم یستطیعوا المغادرة، أو لم یریدوا، أو لأنھم ما زالوا یتشبثون بفكرة مشبعة بالحنین، وهي أنَّ الحیاة ربما تعود إلى ما كانت علیه في السابق، على الرغم من كل ما حدث ويحدث.


علاء كيلاني


المصدر
جيرون