في مفهوم “المعارضة السورية” ونقده



“هو يريد أن ينال امتيازات السلطة وشرف المعارضة!”، هكذا وصف أحد دكاترة الفلسفة “الشبيحة”، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، زميلًا له في جامعة دمشق، كان له صلات ببعض المسؤولين البارزين في السلطة، وموقفًا ناقدًا للاستبداد ومؤيدًا للديمقراطية، في الوقت نفسه. لم يكن هذا الدكتور/ المُخبر ينتقد (فقط) ما كان يبدو تناقضًا داخليًّا، في الموقف السياسي والأخلاقي لزميله (وهو ما كان يفعله أشخاص آخرون)، ولا كان يقوم أساسًا، أو في ذلك السياق، بانتقاد تمتع هذا “المعارض” بامتيازات السلطة، ومنافسة المخبرين الطائعين من أمثاله، على امتيازاتهم و”أرزاقهم”. ما كان يستهدفه هذا الانتقاد، تحديدًا أو بالدرجة الأولى، هو تمتع هذا المعارض بـ “شرف المعارضة”، على الرغم من كونه يحظى بـ “امتيازات السلطة”.

“شرف المعارضة”! يُشير هذا التعبير إلى أن الموقف المعارض كان يحظى بتقييم إيجابيّ ما، حتى بين (بعض) الموالين للسلطة الاستبدادية، فكيف أصبح مصطلح “المعارضة”، في السياق السوري الحالي، يحظى بسمعة سيئة عمومًا، إلى درجة سمحت للكثيرين بالمساواة بين السلطة الاستبدادية ومعارضتها؟ للإجابة عن مثل هذا السؤال، لا بد من التمييز بين معنيين لمصطلح “المعارضة”: المعارضة بوصفها جهةً محددة في صراع متعين، والمعارضة بوصفها موقفًا سياسيًّا وأخلاقيًّا ضد الاستبداد.

يُشير المعنى الأول للمعارضة، إلى مؤسسات وتنظيمات وأفراد أو شخصيات محددة. ويمكن لهذه المؤسسات أن تضم تنظيمات أو أحزابًا كانت موجودةً، قبل قيام الثورة، ﮐ “الإخوان المسلمين” أو تنظيمات ومؤسسات نشأت بعد قيام الثورة، بغرض “تمثيلها”، مثل “المجلس الوطني” و”الائتلاف” وما شابه. وبحسن نية أو بسوئها، يقوم بعض الأشخاص بربط معنى المعارضة، ليس بالمؤسسات السياسية السابقة وبتنظيمات مثل “أحرار الشام” و”الزنكي” فحسب، بل بـ “النصرة” و”داعش” وأمثالها أيضًا. وانطلاقًا من ذلك الربط، يستسهل كثيرٌ من الأشخاص القيام برفض مزدوج للنظام وللمعارضة، في وقت واحد. ويذهب كثيرٌ منهم إلى درجة القول “إن المعارضة ليست أفضل من النظام أو أقل سوءًا منه، بل هي أسوأ منه بالتأكيد”.

في مواجهة هذا المعنى، وقبل الحديث عن المعنى الآخر لمصطلح “المعارضة”، لا بد من الإشارة إلى أن تبني هذا المعنى، ونتائجه المشار إليها، يتقاطع تقاطعًا شبه تامّ مع استراتيجية النظام في شرعنة وجوده. فهذه الاستراتيجية لا تقوم، بالدرجة الأولى، على نفي استبداد النظام أو سلبياته الكثيرة والكبيرة، وإنما تقوم أساسًا على التشديد على أن ليس هناك بديل جيد أو أقل سوءًا منه. فالنظام الأسدي لم يشدِّد كثيرًا على ديمقراطيته أو عدم استبداده؛ على العكس من ذلك، نجد أن إعلامه ومواليه يسخرون في كثير من الأحيان من فكرة الديمقراطية وتطبيقاتها وينتقدونها ويقللون من أهميتها. كما لا ينشغل النظام كثيرًا بمناقشة سلبياته وجرائمه الكثيرة والكبيرة وإنكارها، أو الدفاع عن نفسه في خصوصها، بل يركز على إبراز جرائم معارضيه والثائرين عليه وسلبياتهم، وتشويه ما هو غير مشوَّه من صورتهم، أمام الرأي العام العالمي والمحلي.

من “المعروف” أن المهمة الأساسية للنظام الاستبدادي تكمن في الحفاظ على السلطة، والقضاء على أي بديل يمكن أن ينافسه و/أو يحظى بمشروعية ما للحلول محله. ويمكن القول إن النظام الاستبدادي في سورية قد نجح نجاحًا كبيرًا وتامًّا، في القضاء شبه الكامل على كل إمكانية للمعارضة المنظمة في سورية، إلى درجة لم يبق معها لأي تنظيم معارض وزن حقيقي على الأرض. ولهذا اقتصرت المواقف المعارضة على أن تكون -غالبًا- فردية أو حزبية نخبوية، من دون امتلاك أي قاعدة شعبية واسعة أو منظمة. ومن المهم التشديد هنا على أن غياب إمكانية قيام معارضة منظمة للسلطة السياسية هو أقوى مؤشرات انعدام الديمقراطية. فبعيدًا عن النزعة الاختزالية للديمقراطية التي تربط الديمقراطية، ربطًا كاملًا أو شبه كامل، بصناديق الاقتراع وبحجم الشعبية أو التأييد الشعبي الذي يحظى به الطرف الحاكم، ثمة معيار لا يقل أهميةً في قياس ديمقراطية نظام سياسيّ ما. ويتمثل هذا المعيار في مدى احترام هذا النظام للحقوق الأساسية للأقلية أو الأقليات السياسية، ومدى توفير الشروط الموضوعية التي تسمح لهذه الأقليات بتنظيم نفسها، وتأسيس معارضة قوية وحقيقية للسلطة الحاكمة.

أفضت الاستبدادية الكاملة و”الناجحة” للنظام الأسدي، إلى انعدام وجود معارضة سياسية منظمة له. ولهذا السبب لم يكن بالإمكان قيام أي تغيير أساسي حقيقي في سورية، دون التخلص من هذا الاستبداد الذي لا يمنع قيام معارضة سياسية له فحسب، بل يقوم أيضًا باحتكار الاشتغال بالسياسة، وبمنع وقمع كل اشتغال بها وبمسائل الهم العام، في المجال العام، بعيدًا عن سلطته الأمنية الاستبدادية وخارج رقابتها وتوجيهاتها. ولهذا كان قيام الثورة ضد هذا النظام ضرورةً لا مناص منها، من أجل عودة سورية إلى أهلها، وعودة أهل سورية إلى السياسة، وإلى العمل الحر في الشأن العام.

المفارقة التي حصلت لاحقًا هي أن كثيرًا من السوريين والجهات الدولية بدؤوا بمطالبة المعارضة السورية بالتوحد، وبتأسيس بديل سياسي يقنع السوريين والدول الخارجية بشرعيتها، وبأحقيتها بالمطالبة برحيل هذا النظام. وقد نسي أو تناسى هؤلاء المطالبون أن لا وجود لمعارضة سورية منظمة، ولا إمكانية لوجودها، في ظل وجود هذا النظام الأسدي الاستبدادي، كما تجاهل هؤلاء المطالبون أن المعارضين “الفاعلين” هم أفراد مفرقون وتنظيمات مترهلة ونخبوية، ليس لها أي قاعدة شعبية، وأن قيام الثورة على هذا النظام كان ضرورةً سياسيةً، بسبب غياب المعارضة المنظمة والفاعلة، وليس بسبب وجودها؛ فلو كان بالإمكان وجود هكذا معارضة، لما كان هناك حاجة إلى قيام هذه الثورة أصلًا.

لقد أفضى النشوء الاعتباطي والارتجالي والمشوه للمعارضة السورية “المؤسساتية”، إلى نتائج سلبية كثيرة، وكبيرة نسبيًّا. فقد أسهم هذا النشوء في الانتقال بعدها تدريجيًّا، من الحديث عن وجود ثورة ضد نظام استبدادي إلى الحديث عن وجود خلاف سياسي وغير سياسي بين طرفين، هما النظام والمعارضة. وبدلًا من الحديث عن مطالب الثورة المتمثلة في الحرية الديمقراطية وما شابه، أصبح الحديث يدور عن مفاوضات وتسويات بين أطراف سياسية محددة، على كل منها تقديم تنازلات كبيرة للوصول إلى حلول وسط. وإلى جانب مصطلح المعارضة، بدأ مصطلح “الحرب الأهلية” بالانتشار، عفوًا أو قصدًا، بوصفه بديلًا مناسبًا لمصطلح الثورة، مع العلم أن أغلب معايير “الحرب الأهلية” لا تنطبق على ما حدث ويحدث، في سورية منذ عام 2011. لكن هذا الاستخدام قد انتشر نتيجةً لشيوعه في وسائل الإعلام الأجنبية من جهة، ونتيجة للتقييمات السورية النقدية التي أخذت شكل جلد الذات، وتبني رؤية الآخر الأجنبية لأسباب معقدة، من جهة أخرى.

في ظل شيوع مصطلح “الحرب الأهلية” والزعم بتحول الحكومة و”المعارضة” إلى طرفين أساسيين فيها، وفي ظل ازدياد الجرائم الكبيرة والكثيرة المرتكبة من قِبل كل الأطراف المشاركة في هذه الحرب الفظيعة، انتشرت الرؤية التي تدين كل الأطراف المعارضة والمؤيدة، على حدّ سواء. وفي هذا الإطار، بدأ الكثيرون بـ “التجرؤ” على التبرؤ من المعارضة والنظام على حدّ سواء. في المقابل، تخلّى بعض المعارضين عن “معارضتهم التاريخية” للنظام، وانشغلوا انشغالًا كاملًا تقريبًا، بـ “معارضة المعارضة” وبنقدها، أو بالأحرى، بانتقادها ومهاجمتها أو التهجم عليها. وقد ساهمت عوامل كثيرة في تشويه مفهوم المعارضة و/أو إفقاده لأي معنى واضح ومحدد. فقد انضم إلى صف المعارضين الرسميين -آنذاك- أعضاء قائمون على رأس عملهم في حكومة النظام الأسدي (علي حيدر وقدري جميل مثلًا) أو أعضاء سابقون في حكومة النظام الأسدي ومؤسسات سلطته، أصبحوا معارضين من دون أن يعارضوا النظام، ودون أن يتبرؤوا من تاريخهم أو أن يعتذروا عنه (جهاد مقدسي مثلًا). ومؤخرًا أعلن أحد الأشخاص عن تأسيس محطة إعلامية للتعبير عن “قيم الثورة”، وأشار إلى أنها موجهة “إلى كل السوريين إلا القتلة”، مع العلم أنه كان، إلى وقت قريب، إعلاميًّا بارزًا في محطة تابعة لأحد أبرز “قتلة السوريين”. وهكذا أصبح طريق مغادرة حضن الوطن أو بوطه العسكري والعودة إليه مكتظًا بالمرتحلين بين جهتين، لم يعد سهلًا التمييز الواضح بينهما.

لا ينبغي لكل ما سبق ذكره وغيره أن يجعلنا نقبل باختزال مفهوم المعارضة إلى هذه الجهات والمؤسسات والممارسات. فثمة مفهومٌ آخر للمعارضة يتنافى، معرفيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، مع هذا المفهوم السابق السائد. في سياق النظام الاستبدادي، وهو حال السياق السوري الحالي، من الضروري استعادة الحضور الدائم لهذا المفهوم الغائب أو المغيَّب، جزئيًّا ونسبيًّا. ووفقًا لهذا المفهوم الثاني، المعارضة هي موقفٌ سياسيٌّ – أخلاقيٌّ رافضٌ للاستبداد ولممارساته وخطاباته ولأسسها ونتائجها. ولا يتطلب هذا الموقف المعارض الانضواء في تلك المؤسسة المعارضة أو تلك، ولا التوافق مع هذا الشخص المعارض أو ذاك. هذا المعنى الآخر للمعارضة وثيق الصلة بالمفهوم السياسي للمعارضة عمومًا. ففي النظام الديمقراطي، تتمثَّل المعارضة في القوى الحزبية السياسية المشاركة في العمل السياسي، من دون أن تكون مشاركةً في المؤسسات الحاكمة. أما في النظام الاستبدادي “الناجح”، فهناك حظر كاملٌ ودائمٌ على مشاركة قوى سياسية “معارضة” في العمل السياسي، وسعيٌ دائمٌ للقضاء على كل إمكانية لوجود أو استمرار وجود هكذا قوى أساسًا. وعلى هذا الأساس تكون المعارضة في النظام الاستبدادي موقفًا بالدرجة الأولى. ويسعى هذا الموقف إلى أن يعبر عن ذاته بكل الطرق الممكنة، وبعد القيام بحسابات الممكنات والمخاطر والنتائج المتوقعة.

إضافة إلى السمة السياسية للموقف المعارض، فإنه يتسم، في سياق الحكم الاستبدادي، بسمة أخلاقية إيجابية؛ لأنه يقف ضد نظام قامع للحريات ومهين للكرامات ومسيء أو مخالف للقيم والمبادئ والمثل الأخلاقية الإيجابية. وتزداد قوة السمة الأخلاقية للموقف المعارض للنظام الاستبدادي، حين نأخذ في الحسبان المخاطر التي يتعرض لها متبنو هذا الموقف، وهي المخاطر التي تراوح بين الاعتقال المؤقت، والاضطهاد الوظيفي والاجتماعي، والتعذيب الجسدي والنفسي، والتصفية الأخلاقية والجسدية.

المعارضة، بهذا المعنى -بوصفها موقفًا- هي النقيض الأخلاقي والسياسي للاستبداد. وعلى هذا الأساس، ليس هناك أي معقولية أو مقبولية معرفية أو أخلاقية للمساواة بين معارضة النظام الاستبدادي وتأييده أو الإسهام فيه. فالموقف المؤيد للاستبداد أو غير المعارض له هو موقفٌ غير أخلاقي أو لاأخلاقي بالضرورة، بقدر كون هذا الموقف معبرًا عن إرادة واختيار حرين نسبيًّا. صحيحٌ أن الموقف المعارض قد يتجسد في أفعال وأقوال سلبية ومرفوضة، لكن إدانة هذه الأقوال والأفعال لا تجعل الموقف المعارض سيئًا من حيث المبدأ. وعلى هذا الأساس، وفي السياق السوري الحالي، يمكن لأي معارض للنظام الأسدي أن ينتقد كل مؤسسات المعارضة وشخصياتها، وأن يعلن اختلافه معها وعنها، من دون أن يكون مضطرًا إلى التخلي عن موقفه المبدئي المعارض للاستبداد، معارضةً، كاملةً ونهائيةً. وإن انتقاد مؤسسات المعارضة السورية وشخصياتها الرئيسة هو سببٌ إضافيٌّ للتمسك بمعارضة النظام الأسدي الذي أسهم في إنتاج هذه المعارضة، أو إنتاج شروط نشوئها وتكوينها. فإذا كانت المعارضة السياسية في النظام الديمقراطي هي، بمعنى ما، نتاج النظام السياسي (القوانين والتشريعات والممارسة الحاكمة للعملية السياسية) السائد في بلدها، ومنتجةٌ له في الوقت نفسه؛ فإن معظم سمات المعارضة السياسية، في النظام الاستبدادي وممارساتها وخطاباتها، مرتبطةٌ ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر، بالنظام السياسي الاستبدادي السائد في بلدها، حيث تنعدم الحريات وإمكانات التغيير السلمي. فالنقد الذي يمكن أن يوجه للمعارضة بسبب فساد مؤسساتها وشخصياتها، نسبيًّا على الأقل، وارتجالية عملها وارتباطها بقوى خارجية غير وطنية، من حيث الدعم المالي أو السياسي أو العسكري أو الإقامة… إلخ، كل ذلك وغيره، يمثلُ سببًا إضافيًّا لانتقاد النظام الاستبدادي، بوصفه أس البلاء وأساس المشكلات والسلبيات، في الميدان السياسي وغير السياسي. فلا معنى سياسيًا وأخلاقيًا إيجابيًا لأي “معارضة للمعارضة” لا تندرج في إطار معارضة النظام الاستبدادي و/أو الثورة عليه، وتحميله المسؤولية السياسية والأخلاقية الأكبر، عمّا حصل ويحصل في البلاد التي يحكمها.

إضافةً إلى الحرب التي تخوضها قوى داخلية وخارجية متعددة على الأرض السورية، ثمة حربٌ موازية على مستوى الخطاب والتنظير؛ فالقوى المضادة لقيم أو المعادية الثورة وأهدافها، أو غير المكترثة بمصالح الشعب السوري الثائر، وبسعيه إلى الحرية والديمقراطية والعدالة، ترسم في خطابها النظري صورةً تتناسب مع مصالحها وأهدافها، وتعمل على انتقاء المفاهيم و/أو تغييرها أو اختزال دلالاتها بما يفضي إلى رسم صورة نظرية تتناغم مع تلك المصالح والأهداف. فليس أمرًا عفويًّا أو بريئًا تركيز كثير من الجهات على الحديث عن “حرب أهلية”، لا عن “ثورة”، وعن معارضة، بوصفها مؤسسات وشخصيات محددة، وليس بوصفها موقفًا من الاستبداد. وإذا كان “طبيعيًّا” أو “شائعًا”، في المجال السياسي – الإعلامي، قيام كل جهة بتشكيل خطابها النظري، فمن غير المناسب، لا معرفيًّا ولا سياسيًّا ولا أخلاقيًّا، أن يتبنى معارضو النظام الأسدي والثائرون عليه أو المؤيدون للثورة عليه، تبنيًّا ساذجًا، خطاب الجهات المعادية للثورة أو غير المكترثة بها وبأهدافها، ليس لأن هذا الخطاب لا يتناسب غالبًا مع مصالحهم وأهدافهم فحسب، بل لأنه أيضًا، في كثير من الأحيان، يفتقد افتقادًا كبيرًا الحدَّ الأدنى أو الكافي من الموضوعية المعرفية والفائدة السياسية والإيجابية الأخلاقية. ومن هنا تأتي ضرورة المراجعة الدائمة لخطاباتنا ومفاهيمنا وأفكارنا، وإخضاعها للتفكير والنقد الدائمين.


حسام الدين درويش


المصدر
جيرون