السينما والعلم



منذ بداية اختراع السينما وولادتها الفنية، لم تتخل عن العلم ولم يتخل عنها. كانت تبحث عن انسيابيتها، كي يشاهدها المتلقي كما ترى عين الانسان الصورة الطبيعية. لقد أنقذ العلم قفز الصورة السينمائية؛ عندما اهتدى -بها ومعها- إلى أن العين ترى 24 “فريم” في الثانية، واستمرت الصورة في السينما لسنوات، قافزة متقطعة غير طبيعية، في لونها ودقتها وتكوينها، لكن العلم أسعفها وتوازى معها، لتصبح ما هي عليه الآن؛ ما جعل العين تراها كما ترى الحياة. ثم جاءت معركتها مع الصوت والألوان والوضوح، والعلم يقدم لها خدماته المتتالية، وكأنه مسؤول عنها وعن منتجاته الفذة.

كما أن السينما -كبناء فني ومحتوى جمالي وموضات في الرؤيا- كانت تروج للأفكار العلمية، وتعتمد بحكايتها وقصصها على أفكار ومغامرات العلماء، فقدمت أفلامًا قيل عنها إنها فانتزيا أو خيال علمي، لكنها كانت رؤيوية سابقة لعصرها، ومتقدمة على العلماء أنفسهم، فكثير من الأفلام تحدثت عن الصعود إلى القمر، وعلم الاستنساخ وغيرها، والأمثلة كثيرة، حيث إنها كانت تسمى خيالًا علميًا فانتازيًا، وقد أصبحت الآن واقعية، فيها نبوءة مسبقة للعلم ذاته.

لذلك، تحتمت، على كتاب السيناريو وصانعي الأفلام، شراكة وثقافة علمية متزاوجة مع الرؤية الفنية، فانخرطت السينما، تقنيًا وفنيًا، في العلم وتاريخه ومنجزاته وحركته السريعة، في الاكتشافات والاختراعات، وحولت كثير من المسائل العلمية المعقدة، إلى فكر فني ومتعة مدهشة، وأخرجت العلم، في كثير من المسائل والتعقيدات، إلى الفن وإدهاشاته، في شراكة معرفية ضرورية؛ حيث استخدمته في محتواها الفني أيضًا، كحاجة وفهم لتاريخه وضرورته في الحياة ومخيالها.

السينما لم تتحد فقط مع العلماء وعلومهم التطبيقية، إنما كانت -أيضًا- ملاصقة للعلوم الإنسانية كعلم النفس، وعلم التاريخ والأنثروبولوجيا، وعلوم ونظريات التربية الحديثة، في اشتباك كامل مع الحياة، والمختبرات والافتراضات النظرية المتعددة.

والعلم لم يعتبر أن السينما كائن مستقل عنه، لذلك نشأت مختبرات علمية لتطوير الآلة السينمائية، وعلى رأسها الكاميرا والمونتاج والخدع والجرافيك، وتطور علوم الكمبيوتر وسرعة تحولاته العبقرية، وكانت السينما تترافق معه، وتدخله في عالمها الفني المدهش.

في السينما الوثائقية، منذ بدايات القرن المنصرم، ظهر تخصص اسمه “السينما العلمية”، وخاض تجارب مع الكائنات البحرية والبرية والطيور، حيث رصدت، جنبًا إلى جنب، مع علماء الأحياء، والفلك وغيرهم، كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك الكائنات المجهرية، وصورت بالتليسكوب الفضاءَ الخارجي، واستخدمت الميكروسكوب، في رصد العمليات الحيوية الدقيقة. كما رصدت حياة الحيوانات البرية المتوحشة، وأضفت عليها الـ (درامية والتشويق)، واستخدمت تسريع الصورة وتبطيئها، لنرى ما لم تكن رؤيته ممكنة بالعين المجردة.

ليست السينما معنى وفكرة وحسب، بل تطورت علميًا كأدوات، ومنها العدسة السينمائية، التي استخدمها الأطباء في عملياتهم الاستكشافية في جسم الإنسان، والصور الطبقية المعقدة، للدماغ والشرايين والأورام وغيرها، والآلاف من التجارب العلمية التي تم التحقق منها، بفضل علم الصورة السينمائية.

إن كرة القدم والرياضة أصبحت شعبية وذات قيمة بفضل الصورة، ورصدها لزوايا الفعل، من خلال جعل الفعل متعددًا ومدركًا ومفهوم الحدوث. كما أن الكاميرا رصدت، من خلال الصور المتحركة، الجرائم والحروب، وبرأت مظلومين، وأخرجتهم من السجون، وكشفت جرائم، كان من الممكن أن تكون في حكم المجهول لولاها، فسياق الأمثلة كثير، والتنبؤ بالقادم من استخدامات العلم للسينما والعكس، ما زال في أول الطريق.

وليس الفن السينمائي وحده الذي انخرط وتشارك مع العلم، إنما الفنون كلها: الموسيقى والتشكيل والتصميم والمسرح..

إن السينما العربية فقيرة في هذا المجال، وتجاربها العلمية من خلال الفن السينمائي، تكاد تكون نادرة. فقد اعتمدت الأفلام العربية على الأدب والسرد، والواقعية الاجتماعية، وهذا فقر معرفي من جهة، وإبداعي من جهة أخرى، ناهيك عن طيف المحرمات الدينية والفكرية والفلسفية. فالسينما في العالم أصبحت أحد أهم مصادر المعرفة، وتحولت إلى تيار فكري وعلمي وثقافي مستقل.

إن على صانع الأفلام أن يكون مواكبًا ومعاصرًا لحركة العلم، والعلوم التطبيقية كافة، لجعل السينما جزءًا من الحياة، وشكلًا من أشكال التطور البشري المعاصر. فالمبدع السينمائي هو واحد من العلماء في الحياة، وعليه أن يكون كذلك.

في الختام، لا بد من القول: يجب أن تكون السينما، وغيرها من الفنون، بدءًا من الصفوف الأولى في مدارسنا، جزءًا من مناهج التعليم كفكر، ووسيلة من وسائل التعليم كتقنية، فهي كذلك منذ عقود في العالم المتطور.


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون