فادي سعد: قصصي مستوحاة من أحداث واقعية في مسار الثورة السورية



(مكتبة الموتى) مجموعة قصصية للشاعر السوري المقيم في الولايات المتحدة فادي سعد، صدرت حديثًا عن (الدار العربية للعلوم- ناشرون) في بيروت. وهي تضم ثلاث عشرة قصة قصيرة كُتِبَت بين عام 2011، سنة بداية الثورة السورية، والعام 2017. تستقي المجموعة -التي يهديها الكاتب “إلى السوريين الذين خسروا حياتهم من أجل الكلمة… من أجلنا جميعًا”- مادتها من الواقع، مستعينة بالخيال، في توليفة تسعى إلى أرشفة ذاكرة الألم السوري، والبحث عن استشرافات المستقبل.

لمعرفة تفاصيل أكثر عن تجربته السردية الأولى، بعد ثلاث مجموعات شعرية. (جيرون) التقت فادي سعد، فكان هذا الحوار:

بداية أسألك: لماذا (مكتبة الموتى)؟ وكيف تعرف قراء (جيرون) إليها؟

بدأتُ كتابة المجموعة في العام 2011، بعد بداية الثورة السورية، ويمكن أن يكون العنوان الفرعي لها (قصص من سوريا). أردتُ في البداية الكتابة عما يحدث في سورية، كما أراه. أردتُ أن أكتب لحظات سورية معينة تعبر -برأيي- عما يحدث، لم يكن من الممكن أن أفعل ذلك بكثافة الشعر. هكذا كتبتُ القصة الأولى. توالت سنوات الثورة وتوالت القصص، ومع مرور الزمن؛ زمن كتابة المجموعة وزمن الثورة السورية، تعمق أو توضح لدي البعد التاريخي الذي يمكن نقله من خلال قصص المجموعة.

أوضحتُ في بداية المجموعة أن معظم قصصها الثلاث عشرة، مستوحاة من أحداث واقعية في مسار الثورة السورية، وصرتُ أتخيل قارئًا مستقبليًا، يمكن أن يقع الكتاب بين يديه بالصدفة، بعد خمسين عامًا أو مئة. صرتُ أتخيل الانطباعات التي ستتشكل في ذاكرة قارئ مفترض كهذا، عن مرحلة سنوات الثورة. بت مشغولًا بحفظ تفاصيل معينة خلال هذه السنوات؛ تفاصيل ربما ستُنسى يومًا ما. بهذا المعنى، لا مكان أفضل للاستذكار وتقوية الذاكرة من المكتبة. وللأسف، مكتبة الثورة مليئة بالأموات.

ترى أن “الشعر لم يكن من الممكن أن يتسع لما تريد قوله، عن الحدث السوري المهول”. أهو اعتراف منك أن الشعر لم يعد أداة ناجعة لكتابة الزمن السوري، وأن القصيدة تتراجع فيما يتقدم السرد؟ هل وجدت الكتابة القصصية ألين من نظم الشعر، في التعبير عما يعتمل في ذاتك؟

الشعر بطبيعته ينظر إلى الداخل، والسرد بطبيعته ينظر إلى العالم الخارجي. لا أُجري هنا محاكمة قيمية، بقدر ما هو توصيف لطبيعة الأجناس الأدبية.

في القصيدة، مهما حاول الشاعر أن يتموضع خارج ذاته؛ فسيبقى هو محور النص، بينما النص السردي مفتوح على العديد من الأصوات، قد يكون المؤلف أحدها، كما أنه يكون مفتوحًا أكثر على ما يحدث خارج الذات. لذلك، عند محاولة التعامل مع حدث تاريخي كالحدث السوري أدبيًا، سيصعب على الشعر -برأيي- استيعاب هذه التعددية الهائلة في مسارات الأحداث والسياقات والأشخاص.

هناك زلزال يحدث خارج الذات الكاتِبة، وهذا ما أردتُ الحديث عنه. هناك في التاريخ، منذ هوميروس حتى ريتسوس، نصوص ملحمية شعرية كانت تسعى إلى هذا المزج الشعري السردي التراجيدي، لكن، ولأسباب ليس مجال ذكرها هنا، لم يعد الزمن ملائمًا لملاحم كتابية كهذه. نحن في زمن بات الشعر فيه منشغلًا أكثر بالذاتي، يشتغل فيه بعمق وبجماليات لا يمكن سوى للشعر أن يحققها، لكنه يبقى مع ذلك حيزًا محدودًا في عالم يتوسع ويتمدد ويتشظى في كل الاتجاهات.

الكتابة السردية أرْحَب، لذلك قد تكون قادرة على الإحاطة بمشاعر جماعة كاملة، تكون الأنا جزءًا منها، وليست موضوعها الوحيد.

ما حدث في سورية غيّر علاقتي بالشعر..

تأتي مجموعتك القصصية الأولى (مكتبة الموتى) بعد ثلاث مجموعات شعرية. سؤالي: هل استفدت من الشعر، وأنت تكتب قصصك؟

أنا أرى العكس: أن الشعر يمكن أن يفسد السرد؛ أو لنقل إن ترسبات ممارسة الكتابة الشعرية، إذا لم يمارس الكاتب قطيعة ما معها، يمكنها أن تفسد القصة والرواية.

عند مراجعاتي اللاحقة لقصص المجموعة قبل النشر؛ لاحظتُ أن القصص السابقة زمنيًا، تلك التي كتبتُها في السنوات الأولى للثورة، كانت لغتها “شاعرية” أكثر مما كنتُ واعيًا لحظة الكتابة. كان هناك شعرية لغوية مُضرة لشكل السرد ووظيفته وتماسكه. لم أنتبه كثيرًا إلى الموضوع في البداية، كنتُ أكتب تحت ظرف الحدث، وعبر أدوات تجربتي الشعرية السابقة. لذلك عملتُ خلال عملية التنقيح على تخليص النصوص ما أمكن من التأثيرات الشعرية اللغوية. لا أدري إذا نجحتُ تمامًا في ذلك. لكن -برأيي- القصص المكتوبة لاحقًا زمنيًا أكثر واقعية، وأقل انفعالًا، وأكثر تصالحًا مع لغة السرد.

على كل، في رأيي الشخصي، أرى أن الشعر في المرحلة الراهنة، هو الذي يجب أن يستدين من النثر والسرد، وليس العكس. وهو ما حصل ويحصل فعلًا في ما يُكتب من شعر حاليًا في جميع اللغات.

طريقك إلى الشعر، كيف بدأ، وما ضمان استمراريته اليوم؟ وأين الولاء الحقيقي؟ أين المستقر الأكثر دفئًا وأمانًا لك؟

أعتقد أني بدأتُ كما بدأ كثيرون من الشعراء. وقعتُ في الحب، وكتبتُ قصائدي الأولى من أجل حبيبتي. ما شجعني أن ما كنتُ أكتبه في تلك البدايات، كان يُعجب حبيبتي وكان يُعجب -أيضًا- قراء آخرين، كنت أريهم ما أكتب.

كان لدى أهلي في مدينة حلب مكتبة غنية تحوي كتبًا كثيرة، الأمر الذي ورطني مبكرًا في القراءة ثم الكتابة. لا أدري كيف خرجتُ لاحقًا من المرحلة الرومانسية، لكن هجرتي إلى الولايات المتحدة كانت بالتأكيد منعطفًا مهمًا بالنسبة إلي، من الناحية الأدبية، فهنا اطلعتُ على تجارب وتيارات شعرية غيرت الكثير في رؤيتي وطريقة كتابتي. بعد بداية الثورة بفترة، هجرتُ كتابة الشعر، وصرت لا أكتب سوى نصوص سردية. عدتُ مؤخرًا إلى كتابة الشعر، بشكل متقطع.

الآن، أشعر ثانية أني في مفترق طرق أدبيًا. ما حدث في سورية غير علاقتي بالشعر تمامًا، وكما قلتَ في سؤالكَ، أشعر أنه غير ولاءاتي الكتابية.

أعتقد أني تورطتُ في السرد من غير رجعة. هناك ما بات يستفزني في الكتابة الشعرية التي تواكب هذا الزمن الوحشي الذي نعيش فيه: تلك المبالغة والذاتية العاطفية المنشغلة بذاتها. لستَ بحاجة إلى مبالغات أو مفارقات، عندما ترى صورة طفل فقد قدمَيه بسبب القصف. عندما أرى صورةً كهذه؛ أفقد الرغبة في كتابة أي قصيدة. سنرى ماذا يحدث في المستقبل، ولكن أشعر بأن (مكتبة الموتى) هي البداية فقط.

كيف تختار عناوين أعمالك الشعرية والقصصية؟ وهل يُشكلُ العنوان مدخلًا للنص عندك؟

بالنسبة إلي، أجد العنوان مختبئًا في أحد نصوص الكتاب الذي أشتغل عليه. يمكن أن يكون عبارة أو جملة، أو حتى كلمة من أحد النصوص، ويمكن أن يكون عنوان أحد نصوص الكتاب (كما هو الحال في مجموعتي الأخيرة). كأن هناك دائمًا عبارة أو جملة في الكتاب تنتظر الاكتشاف، تنتظر أن يلتقطها أحد، لأن ملامحها تعبّر عن روح الكتاب وهويته.

لا أستطيع أن أتخيل عنوانًا لا يكون جزءًا من بنية النص بطريقةٍ ما. عنوان يبدأ النص، أو يلمح إلى ما سيأتي، أو يوضحه، أو يتنبأ به. في كثير من الأحيان، هناك نصوص لا يمكن فهمها تمامًا من دون عنوانها.

في الحياة خسارات كثيرة، هل تعوضنا الكتابة بعض خسائرنا؟ إلى أي مدى أنت معني، ككاتب يعيش في المنفى، بالهُنا (سورية) والآن؟

لماذا نكتب؟ لم يعد يشغلني هذا السؤال كثيرًا. أقول لم يعد، لأني فكرتُ فيه كثيرًا في السابق، والإجابة التي وجدتُها أكثر قربًا إلى الصدق أو “الحقيقة” هي أن الكتابة فعل مهووس بذاته، وهذا يعني -أيضًا- أن الكاتب كائن مهووس بنفسه. ولا أقصد الهوس هنا بالمعنى السلبي، بل بما يعنيه من حتمية استحواذ خيار الكتابة على حياة الكاتب بكل تفاصيلها؛ استحواذ لا يمكن أن يستمر إلا إذا كان خيار الكتابة بالنسبة إلى الكاتب خيارًا وجوديًا لا مهرب منه، فعملية الكتابة ليست مريحة أبدًا، وتتطلب أحيانًا الكثير من التضحيات. ما أريد قوله أن كل إنسان يجد طريقة معينة ليُعطي معنًى لحياته، ليستطيع الاستمرار في هذا العالم الموحش المليء بالقسوة، ليحقق نوعًا من المصالحة مع ذاته، والكتابة إحدى تلك الطرائق التي تتحول إلى صمام أمان، بالنسبة إلى الكاتب، للتعويض ليس فقط عن خساراته، بل عن عبثية وجوده برمته، ولا يعود سهلًا التخلي عنها.

أما عن علاقتي بالمكان والزمان السوريين، فكل ما فعله المنفى، منذ اللحظة التي تركتُ فيها سورية، أنه زاد هذه العلاقة شراسة في الدفاع عن نفسها وهويتها.

المنفى يزيد من مقدار المقاومة لأي علامات ضعف يمكن أن يعتري هذه العلاقة. الكتابة والثورة عمقا بشكل كبير معنى هذه العلاقة وضرورتها.

الالتزام الأيديولوجي في الفن يفسده..

كيف ترى التوازن بين الالتزام من جهة، والجمالية والفنية سواء الشعرية أو النثرية من جهة ثانية؟

الحقيقة، لا أحب كثيرًا الجمع بين كلمتَي الالتزام والفن. الموضوع يثير لدي حساسية سلبية. برأيي أن من الأشياء السيئة التي يمكن أن تحدث للفن هو أن يكون مُلتزِمًا. الالتزام الأيديولوجي والاجتماعي والأخلاقي في الفن يفسده وينخر فيه. يمكن التعبير عن الالتزام بوسائط تعبيرية أخرى كثيرة، كالمقال والبحث والدراسات والخطابات والنقد. لذلك أعتقد أن أي كاتب أو فنان لا يجب أن يسعى إلى تحقيق توازن ما بين الجمالية والالتزام، فهذا التوازن سيأتي دائمًا على حساب الجمالية في النهاية، والفن الذي لا يكون همه الأول جماليًا، يعتريه الضعف، ويبقى في دائرة ضيقة لا يخرج منها.

الآن، أعترف أن تطبيق هذا التجرد الفني لم يكن دائمًا سهلًا، أثناء كتابتي مجموعتي الأخيرة. فالسؤال هو: كيف يمكن كتابة حدث تاريخي سياسي إنساني هائل، كالحدث السوري، وكيف يمكن أن يشهد المرء هذا الكم من الجرائم التي تُرتَكب بحق شعب، ويحافظ في الوقت نفسه على “تجرده الفني”؟ ربما من المستحيل فعل ذلك؟ فكل كاتب، وكل نص، له تموضع ما سياسي ثقافي اجتماعي وجودي، ولا يمكن طبعًا إلغاء هذا التموضع، أو التظاهر بعدم تأثير تموضع الكاتب على كتابته. لكن أزعم أنه لم يكن قصدي من كتابة المجموعة إظهار تموضعي وإبرازه كرسالة.

وأؤكد ثانية أن الكاتب يجب أن يسعى، قدر استطاعته، ليكون تموضعه في نصوصه ديمقراطيًا، متواضعًا أمام حقائق الحياة، ومتمردًا على نفسه، وهذا الأمر يحتاج إلى نضج فني. يمكن القول إن أهم ما في موهبة أي كاتب أو فنان، هو أن يسعى وينجح في تقديم فن أكبر من ذاته وأناه.

يتحدث المتتبعون حاليًا عن هيمنة الجنس الروائي على باقي الأجناس الأدبية الأخرى. هل تتفق مع هذا الطرح؟ وبالتالي هل تفكر يومًا ما بكتابة الرواية؟

هذا الطرح فيه بعض من الصحة، ولا يمكن إنكاره، بغض النظر عن الموقف النقدي أو الجمالي منه. ولهذه الهيمنة أسباب ومقدمات من الممكن تحليلها وفهمها. لكن باختصار يمكن القول إننا نعيش الآن في عالم يحتاج إلى الرواية أكثر منه إلى الأجناس الأدبية الأخرى؛ عالم يحتاج إلى ما يفسره لا ما يزيده غموضًا. نحن نعيش في عالم متشظ، كما لم يكن سابقًا، ويحتاج إلى ما يمنحه بعض التماسك، ولو نصيًا ولغويًا، وهذا يتحقق بشكل أكبر في الرواية. أقول هذا وأنا من أشد المؤمنين بضرورة وجود الشعر، ليس كمُنتج أدبي فحسب، بل كرؤية وكممارسة وكجمالية تحافظ على روح وخيال وتوازن هذا العالم.

أما عن نيتي كتابة الرواية، فهي مغامرة أفكر فيها دائمًا، لكني ما زلتُ أشعر بالرهبة تجاهها، فكتابة الرواية عمل يحتاج إلى تفرغ وجهد والتزام، أكثر بأشواط مما تطلبه أجناس أدبية أخرى، وهذا ما لا يمكن الاستخفاف به.

لك صفحة في الفضاء الأزرق (فيسبوك)؟ كيف تعيش مع الزمن الرقمي؟ هل أحدث فجوة في رؤيتك إلى العالم؟ وإلى أي حد غيرت الوسائطية من طقوسك في القراءة والكتابة؟

أساليب الكتابة، أشكالها، طرائق عرضها.. كل هذه الأشياء تتأثر بالمحيط الذي تعيش فيه. تتأثر بالتاريخ والزمن والمرحلة. ووسائل التواصل الاجتماعي كـ (فيسبوك) وغيره، يمكن اعتبارها إحدى تلك المنعطفات التقنية الإنسانية المهمة التي لا بد أن تُحدث تأثيرات كبيرة في طرق التعبير ومنها الكتابة.

أما التساؤل عما إذا كانت تلك التأثيرات إيجابية أو سلبية، فهذا برأيي سؤال لا معنى له كثيرًا. كأن تسأل إذا كان اختراع الكومبيوتر شيء جيد أم لا! في النهاية هناك اختراعات وتغييرات ستحدث في المسيرة الإنسانية، والسؤال هو ماذا تفعل أنت بها، وكيف تستخدمها في حياتك. أعتقد أن أي ابتكار إنساني يمكن توظيفه بطريقة مبتذلة أو بطريقة لائقة ومفيدة. المسؤولية على المُستخدِم لا على الأداة نفسها.

شخصيًا، أرى أن الزمن الرقمي زمن ديمقراطي أكثر، منفتِح أكثر، وبطريقة ما، عادل أكثر. (فيسبوك) مثلًا سمح للكثير من المواهب أن تُكتَشف، وأن تظهر وأن تعبر عن نفسها، وأن تُثبت وجودها، وهذا وحده يكفي أن يمسح كل عيوب (فيسبوك) الأخرى.

لم يعد رؤساء تحرير الصفحات الثقافية يقررون ما نقرأ، وما هو أدب، وهذا انتصار هائل للكتابة الأدبية، خصوصًا في عالمنا العربي الذي تتفشى في صحافته عقليات الوساطة والسلطة. مع ذلك، أحاول أن أنتبه كي لا يصيبني هذا الزمن (الرقمي) بعيوبه، أي إلى كاتب يحب الاختصار ويستسهل الكتابة السريعة، والقراءة السريعة. أنتبه وأجاهد ضد هذا الإغراء، فالسرعة مقتل الكاتب.

ما الذي يشغلك هذه الأيام على صعيد الكتابة؟ وما هو عملك القادم؟

بدأت بكتابة مجموعة قصصية جديدة. كما قلتُ لك، يبدو أني تورطتُ في السرد من غير رجعة.

يُذكر أن فادي سعد كاتب وطبيب سوري، من مواليد حلب عام 1973. وهو مقيم منذ سنوات في مدينة “ديترويت” في الولايات المتحدة. شارك في تأسيس مؤسسة “جذور الثقافية”، صدرت له ثلاث مجموعات شعرية، ونشر العديد من الدراسات الأدبية النقدية والترجمات في الصحف والدوريات الثقافية العربية.


غسان ناصر


المصدر
جيرون