هل تكون إعادة الإعمار مدخلًا لاستعادة سورية؟



مقدمة:

في ظل استمرار الحرب والدمار، دون أي أفق في حل قريب، يخرج سورية والسوريين من النفق الذي حصرهم فيه نظام الطغمة القابع في دمشق، وفي ظل تواطؤ إقليمي ودولي غير مسبوق؛ يبدو الحديث عن إعادة الإعمار سابقًا لأوانه، إذ لا بد أن الأولوية الآن هي لوقف الحرب. هذا صحيح نسبيًا، لكن هل إيقاف الحرب رهن بإرادة السوريين؟ بالطبع لا، فالحرب السورية لم تعد حربًا سوريةً إلا في مكان حدوثها واستمرارها، فهي حرب في سورية، لكن بالوكالة لصالح أطراف إقليمية ودولية، وهي أيضًا في أغلبها حرب على سورية، من قبل أعداء سورية و”أصدقائها”. وهذا يعني فيما يعنيه أن إيقاف هذه الحرب بات جزءًا من توافق، ولو كان نسبيًا، لهذه القوى المتصارعة على ملفات ما بعد الحرب، بما في ذلك الملف الاقتصادي وإعادة الإعمار.

سيكون ملف إعادة الإعمار من أكثر الملفات تعقيدًا، في مستقبل سورية المتوسط والقريب على الأقل، وذلك بسبب حجم الدمار غير المسبوق الذي تسببت به الحرب، فكلفة إعادة الإعمار قد تتجاوز 200 مليار دولار، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي (أي خمسة أضعاف الناتج الإجمالي المحلي لسورية قبل الحرب)، وهذه الكلفة لا شك أنها ستزيد مع استمرار الحرب. يضاف إلى ذلك حجم تداخل وتضارب المصالح الدولية والإقليمية في سورية، والذي قد يحوّل هذا الملف إلى ملفات جزئية ملحقة بتلك المصالح، ويفقد بذلك السوريون فرصة تحويل إعادة الإعمار، ليس إلى محرك لنمو اقتصادي مستدام فحسب، بل إلى محور من محاور إعادة بناء الهوية السورية الجديدة، والتي ستكون حجر الزاوية في استقرار الدولة السورية المنشودة. هذا يعني أن على السوريين أن يبذلوا جهدًا مضاعفًا في الاقتصاد، كما في السياسة، ليستعيدوا استقلال القرار الوطني.

ولكن أين السوريون من كل ذلك؟ هل سيضيع السوريون فرصة الإمساك، أو على الأقل التأثير في الملف الاقتصادي، كما أضاعوا الملف السياسي؟ هل هناك فرصة للسوريين في المساهمة الفعالة في ملف إعادة الإعمار، وقد تكون فرصة لهم للعودة إلى التأثير في الملف السياسي؟ ربما، ولكن -بكل تأكيد- يبقى السؤال هو كيف يمكن أن يحدث ذلك. وهذا ما ستحاول الورقة مناقشته، ليس بهدف وضع تصورات لحلول ممكنة، فهذا عمل أكبر من هذه الورقة الصغيرة، ولكن هذه الورقة تهدف، على الأقل، إلى فتح النقاش حول الموضوع للمهتمين على الأقل.

لماذا يغيب السوريون عن مناقشة ملف إعادة الإعمار؟

من الملفت للانتباه، أن هذا ملف لم يحظ -حتى الآن- باهتمام كاف من قبل النخب السورية، لأسباب عديدة، ولعل من أهمها طغيان الملفين السياسي والحقوقي نتيجة استمرار الحرب، وهذا مفهوم. لكن من الأسباب أيضًا ضعف وقصور أو حتى غياب الجانب الاقتصادي، في خطاب “النخب السورية الديمقراطية” في سورية ما قبل الثورة، ونعتقد أن ذلك يعود إلى عدة أسباب، يمكن إجمالها بما يلي:

أولًا: تكريس الاستبداد: وخاصة منذ عام 1963، إذ تحكمت نخبة عسكرية بكل جوانب صنع القرار الاقتصادي (وغير الاقتصادي)، ومنذ ذلك الحين؛ طغى (في الظاهر) البعد السياسوي الأيديولوجي على القرارات الاقتصادية، دون الأخذ بالحسبان النتائج المترتبة على ذلك، والتي كانت بمجملها كارثية (خاصة على المدى البعيد)، لكن البعد الأيديولوجي كان في حقيقة الأمر غطاءً لتحويل الاقتصاد إلى أداة من أدوات التحكم والسيطرة؛ لتمكين النخبة العسكرية الحاكمة من الإمساك بجميع منافذ التمرد المحتمل. وأدى هذا إلى إيقاف الاستثمار في الاقتصاد كعلم على مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث والتي بدلًا من أن تكون مطابخًا للقرارات الاقتصادية -كما هو الحال في الدول الحديثة- تم تحويلها إلى مؤسسات لإنتاج حملة الشهادات، بغية الحصول على وظيفة ما، فتم تخفيض عِلم الاقتصاد إلى أحد فروعه: إدارة، محاسبة، إلخ، ليتركز على مجموعة من المهارات (المهمة بكل تأكيد)، لكننا فقدنا الاقتصاد كعلم يدرس الظواهر الاقتصادية، ويربطها بسياقها الاجتماعي والسياسي والثقافي، كما فقدنا الاقتصاد كعلم لوضع خطط التنمية الشاملة الوطنية والمحلية، وعلاقة الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الدولي والإقليمي.

ثانيًا: الخلفية الأيديولوجية للنخب الاقتصادية السورية والنخب السورية عمومًا: مع “التوجه الاشتراكي” للنظام الحاكم في سورية منذ الستينيات؛ طغى الجانب الأيديولوجي على كل الجوانب الفكرية المتعلقة بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وليس مصادفة أن نجد أن كتلة كبيرة، من “الخبراء” الاقتصاديين السوريين، قد تلقوا تعليمهم الجامعي في الاتحاد السوفيتي، حيث الاقتصاد هو خطة مركزية تضعها الحكومة، وتقوم الأجهزة البيروقراطية بتنفيذها، حيث يفترض هذا النموذج أن الحكومة أَعلم من غيرها بحاجات المجتمع الاقتصادية، وهو افتراض خاطئ بلا شك، وخير دليل على ذلك هو انهيار المنظومة (التي أسسها السوفييت) التي حملت هذا النموذج، وروجت له. في المقابل انشغل الاقتصاديون السوريون الإسلاميون بمهاجمة “النظام الربوي” في المصارف، باعتباره المصدر الأساس لكل الشرور في الحياة الاقتصادية، وقدموا بذلك صورة مبتذلة عن “اقتصاد السوق” الذي تروج له الأذرع الإعلامية للشركات المتعددة الجنسيات. في كلتا الحالين، لا يتم التعامل مع علم الاقتصاد كفكر أولًا، أي فكر يقارب الواقع، ويستند إلى أبحاث ميدانية بهدف فهم ديناميكياته الاقتصادية وتفاعلاتها مع السياسة والمجتمع؛ بغية مقاربة حاجات الناس العيانية ووضع الرؤى والخطط والاستراتيجيات، لتلبية تلك الحاجات.

ثالثًا: إن التفاعل بين الاستبداد وسيطرة الأيديولوجيا على تفكير النخب الاقتصادية أدى، مع مرور الوقت، إلى تقزيم مجال اهتمامات النخب السورية إلى مسألة التحول الديمقراطي، في وجهه السياسي (إلغاء المادة الثامنة من الدستور، التعددية السياسية والانتخابات وتداول السطلة الخ)، وبدا أن الفساد الآفة الوحيدة التي يعاني منها الاقتصاد خاصة، مع أخذها أبعادًا غير مسبوقة في مرحلة الأسد الابن. ومع ضعف إمكانات المعارضة قبل الثورة؛ ساد انطباعٌ خاطئ يقوم على أن الموضوع الاقتصادي هو مسألة ثانوية، وأنه بمجرد إنجاز التحول الديمقراطي؛ فإن جميع المشكلات حتى الاقتصادية سوف تُحل بشكل تلقائي.

أنتجت هذه العوامل مجتمعة حالة من التخلف والركود، لدى الكوادر الاقتصادية في سورية، والافتقار إلى كوادر اقتصادية وطنية وعصرية في آن. فعلى مر العقود الخمسة الأخيرة، أي منذ وقوع سورية تحت حكم الاستبداد، قطع الاقتصاد -بوصفه علمًا اجتماعيًا ونشاطًا بحثيًا تطبيقيًا- أشواطًا كبيرة، وظهرت فيه مناهج تحليل ونظريات عدة، ظل أغلبها خارج التداول في سورية، لدرجة أن معظم الأبحاث الاقتصادية المنشورة عن سورية، في الحوليات الدولية المُحكمة، أنجزها باحثون غير سوريين. ومع الإقرار بوجود ميراث فكري ماركسي مرن (مثل بعض أعمال المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين)، انفتح على مدارس اقتصادية غير اشتراكية، كنظريتي التبعية والبنيوية، فإن المناخ الأيديولوجي سهّل التعامل مع هذا الميراث، من منظور سياسوي. وفي سياق استبدادي شبه مطلق، فقدت هذه النظريات الكثير من خصوبتها، كما تجاوز الواقع بحكم تغيراته المستمرة الكثير من عناصرها.

من المهم هنا، الإشارة إلى أن جزءًا من المعضلة يكمن في أن أطر التفكير الاقتصادية في سورية ما زالت محصورة بين نموذجين فقط: رأسمالي حيث لا دور مباشرًا للدولة في الاقتصاد، واشتراكي حيث الدولة هي اللاعب الأساس في الاقتصاد. والخلاف بين أنصار هذين المحورين أخذ دائمًا بعدًا سياسيويًا، يتمحور حول دور الدولة، بينما غاب عن النقاش دور المجتمع المدني في الملف الاقتصادي، وكان النقاش، حول ماهية المجتمع المدني ودوره في موضوع التحول الديمقراطي، ينحصر في دوره الرقابي الرادع لتغول السلطة أو القوى الاقتصادية الطفيلية. بينما لم يتم العمل على كشف دوره الإيجابي الفعال، في عملية التنمية الاقتصادية التي تم التعبير عنها نظريًا، في أطروحات “الاقتصاد الإنساني” و”الاقتصاد المؤسساتي” و”اقتصاد الحاجات”، وغيرها من الرؤى والنظريات الاقتصادية التي “تمردت” على الإطارين التقليديين، وزوّدت صُناع القرار الاقتصادي وممارسي التنمية بأُطر فكرية وعملية، حققت نجاحات ملموسة في عدة بلدان ومناطق.

هل هناك دور ما منوط بمنظمات المجتمع المدني السوري؟

منذ تحول الثورة السورية إلى نزاع مسلح، وظهور عبارة “إعادة إعمار سورية” في التداول الإعلامي بشكل ملحوظ؛ نشطت نتيجة لذلك مجموعة من المؤسسات البحثية والمدنية المهتمة بملف إعادة الإعمار، بعضها كان قد تأسس في مرحلة ما قبل الثورة، لكن معظمها تأسس في المهجر، ومنها على سبيل المثال (المنتدى الاقتصادي السوري، المركز السوري للدراسات الاستراتيجية والسياسية، المركز السوري لبحوث السياسات، والمركز السوري للدراسات والأبحاث، ومؤخرًا مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وغيرها) لكن أيًا من هذه المؤسسات لم تتقدم حتى الآن، ولو برؤية أولية لإعادة الإعمار. فبعض هذه المؤسسات أو ربما جميعها لا تتطرق إلى موضوع إعادة الإعمار إلا من منظور جزئي، ولم يتقدم أي منها بمبادرة حول الموضوع رغم أن ذلك ممكن من الناحية النظرية، وفق الإمكانات المتاحة. في مقابل غياب السوريين عن هذا الملف، نجد أن اهتمام المؤسسات الدولية قد بدأ بالتعاظم في هذا المجال. فمنظمة الغذاء والزراعة (فاو) أصدرت تقييمًا وتصورًا أوليًا، لتأثير الحرب السورية على القطاع الزراعي وآليات النهوض بالقطاع. وتتابعت الدراسات من منظمات عدة، لتتوج بدراسة شاملة للبنك الدولي، المؤسسة الدولية المختصة بإعادة الإعمار، وقد قام كاتب هذا المقال، بكتابة سلسلة مقالات عن هذه الدراسات، نشرتها شبكة (جيرون) الإعلامية.

إذن؛ نحن أمام مشكلة مركبة. فهناك قلة في الكوادر الاقتصادية الفكرية والعلمية السورية، وهذا يفسر -ولو جزئيًا- غياب دور السوريين، مقابل حضور فاعل ومتنامي لدور المؤسسات الدولية التي إن استفردت بهذا الملف؛ فلن يكون إعادة إعمار البلاد إلا انعكاسًا لمصالح الدول التي تمول هذه المنظمات.

هل نحن بحاجة إلى مؤسسة وطنية سورية تجمع الموجود، وتبني عليه لتطوره وتوسعه وتنميه؟ في الحقيقة، مع اتساع شبكة معارفي في أوروبا، بدا لي أن الكوادر موجودة لكنها شابة غير معروفة ومبعثرة هنا وهناك. هذا يعني أن الخطوة الأولى المطلوبة هي إيجاد آلية تجمع هذه الكوادر على مهمة واحدة، وهذا يفرض ضرورة وجود هيئة داعمة، تضع الهيكل الأساس لهذا العمل الذي سيكون بلا شك شاقًا ومتعبًا وطويلًا. وهنا تكمن أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المراكز البحثية السورية، ومنظمات المجتمع المدني عمومًا. فهل هناك طريقة لجمعها كلها أو بعضها في (كونسورتيوم) متخصص بموضوع إعادة الإعمار؟

إن إنتاج مشروع استراتيجية شاملة للتعامل مع ملف إعادة الإعمار ليس بالأمر السهل، بل من المستحيل في ظل استمرار الحرب، كما أن حجم الدمار الهائل وتشابك المصالح الدولية يضعان عراقيل كبيرة بهذا الخصوص. لكن مع ذلك يمكن في الوقت الحالي -لو توفرت بعض الإمكانات وبعض الإرادة- صياغة رؤية أولية لملف إعادة الإعمار، بالاعتماد أولًا على الكوادر الموجودة، لو أتيحت لها إمكانات مادية تشكل حافزًا معقولًا، إضافة إلى الحافز الشخصي المتمثل في خدمة مستقبل سورية. هذه الرؤية يمكن أن تتضمن خطوطًا عامة لشكل الاقتصاد وحجم التحديات، تكون بمثابة “ورقة عمل” صالحة للنقاش المُنظّم، بحيث يتم تطويرها وتعديلها وتوسيعها باستمرار. وكلما كان المشاركون من مرجعيات متنوعة؛ كان المشروع أكثر شمولًا وأكثر اقترابًا من الواقع، بشديد تنوعه وعظيم تعقيده.

ونعتقد أن هذا العمل سيكون عاملًا مساعدًا في دعم القضية السورية، في ظل تزايد الحديث عن استخدام إعادة الإعمار كورقة ضغط أو حافز لإيقاف الحرب. ما يعني أن هذا المشروع قد يكون بالفعل فرصة للتأثير في القرار الدولي من جديد، ويكون بذلك فرصة لاستعادة القرار الوطني السوري، ولو جزئيًا. وما يدعم هذه النظرة أن جميع التقارير تؤكد أن حجم الدمار غير مسبوق، منذ الحرب العالمية الثانية؛ ما يعني بدوره أن إعادة الإعمار ستكون تحديًا حتى للمؤسسات العملاقة والدول المؤثرة فيها، ما سيجعلها بحاجة لدور فاعل من السوريين. فهل سنكون مستعدين لهذا الدور؟


أحمد سعد الدين


المصدر
جيرون