نيو يورك تايمز: السمّ الذي ينشره بوتين



دمى خشبية روسية تقليدية كتعويذات تصور الرئيس فلاديمير بوتين. ألكسندر نيمينوف/ وكالة الصحافة الفرنسية -صور جيتي

لقد خنق خصومه السياسيين، والأصدقاء والمقربين الأثرياء، وضمّ جزءًا من أوكرانيا، وقدّم دعمًا معنويًا وعسكريًا لدكتاتور سورية، في حربٍ أهلية وحشية، وحاول أن يقلب الموازين في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وللمرة الثانية خلال عقد من الزمان، هو متهمٌ بتدبير التسمم الغريب لعميل مخابرات منفي في بريطانيا.

إذًا، ما الذي جعل فلاديمير بوتين بطلًا بالنسبة إلى الشعبويين في العالم، والرجال الأقوياء، وغيرهم من الذين يشغلون هوامش السياسة العالمية، سواء أكانوا من اليسار أم من اليمين؟ الجواب، على الأرجح، هو كل ما سبق ذكره.

لأكثر من 18 عامًا في السلطة، تمكن بوتين من تحدي منتقديه، في الداخل والخارج، من خلال تجاهل معايير ومؤسسات النظام العالمي التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ حيث بدا ذات مرة خارج المسار مع الغرب الليبرالي، يبدو الآن أنه في طليعة جيل جديد من الزعماء -في تركيا وهنغاريا وإيطاليا وحتى أميركا- الذين يتحدون ذلك.

فهو لا يقدم أي أيديولوجية متماسكة أو شاملة، كما فعلت الشيوعية من قبل، بل إنه نموذجٌ غير متبلورٍ لحماية السيادة الوطنية ضد المنظمات الدولية، مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تم إنشاؤها لإخماد المظاهر البشعة للقومية العرقية.

كتب لي غاري كاسباروف، بطل الشطرنج السابق، والناقد منذ زمن طويل لحكم بوتين: “أعتقد أن هؤلاء الزعماء الآخرين ينظرون إلى بوتين، ولا يرون الكثير من الإلهام، بل نوعًا من الترخيص لهم”.

وهو لن يرحل قريبًا. يوم الأحد 18 آذار/ مارس، سيتم “إعادة انتخاب” بوتين لولايةٍ رابعة كرئيسٍ، بعد حملة تم تصميمها (وهي مملة جدًا) مثل الحملات السابقة.

وعلى الرغم من أن الكثيرين أشاروا إلى نقاط الضعف الكامنة في روسيا -وهي اقتصاد تهيمن عليه الدولة وقد تآكل بفعل الفساد وسوء الإدارة، إلى جانب تضايق الناخبين- فإن النتيجة الحتمية ستؤكد مع ذلك على مرونة النموذج الذي أسسه.

قالت نينا خروتشيفا، أستاذة الشؤون الدولية في المدرسة الجديدة في نيويورك، ومؤلفة مشاركة لكتابٍ سيصدر قريبًا بعنوان (على خطوات بوتين): “إن حقيقة أنه عملاق على أرجل الطين ليست مناسبة، الإدراك/ المعرفة أكثر أهمية من الحقائق”.

وأشارت إلى أن السيد بوتين قد أتقن الصنعة المتمثلة في تشكيل صورة المرء، من خلال فرض سيطرة الدولة على وسائل الإعلام (التلفزيون، قبل أي شيء) مع زرب المعارضة بعناية في الشوارع وعلى الإنترنت. ما كان ممكنًا لأحدٍ أن يراه في عام 1999، عندما التقطه الرئيس الأول لروسيا: بوريس يلتسين، ليجعله نائبه المتواضع، ومن ثم جعله رئيسًا. لكن السيد بوتين أتى ليجسد عصر ما بعد الأيديولوجية، عصر ما بعد الحقيقة في الواقع التلفزيوني، و”الأخبار المزيفة” التي يشهدها العالم بأسره.

مثل سيلفيو بيرلوسكوني، الرئيس السابق لإيطاليا، والآن دونالد ترامب، فقد أظهر قدرة خارقة لتسخير وهج الاهتمام العام لبناء تابعٍ مخلص، ليكون كل شيء لكل الناس أو، كما قالت السيدة خروتشيفا، أن يكون “ملصقا لأفلام، شريرًا أو بطلًا”.

دستور روسيا يقيّده لفترةٍ واحدة متتالية، وبعيدًا عن الدخول فيه كبطة عرجاء، يقتحمه السيد بوتين، ومكانته تتصاعد على ما يبدو.

باستثناء فترة ما بين عامي 2008 و2012، عندما استلم المنصب، ولكن ليس السلطة الفعلية، إلى مساعده المخلص دميتري ميدفيديف، كان السيد بوتين هو المسؤول، منذ يوم رأس السنة عام 2000.

لقد قاد البلاد فعليًا لفترة أطول من ليونيد بريجنيف، الزعيم السوفيتي المقترن اسمه جيدًا بالركود في البلاد، في أواخر السبعينيات والثمانينيات. مع فترة الست سنوات الجديدة، حيث من المقرر أن يبقى في منصبه على الأقل حتى عام 2024.

لقد أصبحت ميول السيد بوتين الاستبدادية لخدمة مصالح ذاتية، بعد أن عزز سيطرته على مقاليد السلطة السياسية والاقتصادية، والتي تطورت بالفعل أيضًا.

عندما ظهر لأول مرة على الساحة السياسية المضطربة في روسيا، بدا ميالًا إلى أن يواصل قبول الغرب الذي كان السيد يلتسين قد اتبعه، ولكن بشكلٍ عشوائي. وقال في مقابلة مع صحيفة (نيويورك تايمز)، التي شاركتُ فيها في عام 2003: “من خلال/ بسبب عقليتهم وثقافتهم، فإن شعب روسيا هم أوروبيون”. كما قال ذات مرة، ربما بتهور: إن روسيا قد تنضم حتى إلى حلف (الناتو). ولكن سرعان ما غير رأيه بالمؤسسات الأوروبية، حتى في حلف (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، وقد رأى أنها تعارض بشدة المصالح الروسية.

برأيه، إن قادة الغرب أدانوا ظلمًا حرب روسيا ضد الانفصاليين الإسلاميين في الشيشان؛ وحملاته على وسائل الإعلام والمعارضة؛ واستخدام روسيا للغاز الطبيعي كنفوذ سياسي؛ والأصول المشبوهة للسيولة المتدفقة من روسيا إلى البنوك والممتلكات الغربية.

في نهاية المطاف، أكثر ما كان يكره السيد بوتين هو هيمنة الولايات المتحدة، العدو القديم للاتحاد السوفيتي ما بعد الحرب الباردة. الهيمنة التي بدأت بقرار الرئيس جورج بوش بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المعترضة للصواريخ الباليستية، وغزو العراق. لم تكن معارضته لقرار السيد بوش بإطاحة صدام حسين شديدة، فقد وضعته في طابور مع أناس عبر الطيف السياسي الذين لا يثقون بالاستخدام الأميركي غير المنضبط للقوة العسكرية.

بلغت شكوى السيد بوتين من الغرب حدّ الغضب الشديد، بعد الانتفاضات الشعبية في الجمهوريات السوفييتية السابقة، ومنها جورجيا وأوكرانيا، التي اعتبرها “ترتيبًا أميركيًا” -كما قال لشبكة (إن بي سي- نيوز) هذا الشهر- “لوقف تقدم روسيا”.

ومع ذلك، فإن طبيعة النزعة القومية للسيد بوتين قد تغيرت، عندما عاد إلى الرئاسة في عام 2012، بعد أن ترك السيد ميدفيديف منصبه، عندما أصبح محبوبًا بشكل متزايد من اليمين.

بعد أن أذهلته الاحتجاجات، بين سكان المدن المحررين من الوهم، وخيبة الأمل الواضحة بين القادة الأوروبيين مع عودته إلى الرئاسة؛ بدأ السيد بوتين توجيه نداءات واضحة للتاريخ الثقافي والديني لروسيا. احتضن ما سيكون في الولايات المتحدة مألوفًا لدى المحافظين: “القيم العائلية”. لقد شنَّ حملةً ضد التدهور الأخلاقي للغرب، والذي غالى ذات يومٍ، ووصفه بأنه بـ “العقيم والمثلي”.

بدأ المحافظون في الغرب بكيل الإعجاب به. في عام 2013، أثناء تصاعد التوترات حول الحرب الأهلية في سورية، دعا مات درودج، المدون المحافظ، السيد بوتين “زعيم العالم الحر”، وانضم إليه راش ليمبو، ومعلقون يمينيون آخرون وقد بدوا متعلقين باستعداد السيد بوتين لمعارضة خطط الرئيس باراك أوباما لقصف سورية، بسبب استخدامها للأسلحة الكيميائية.

إن أسلوب بوتين القوي وتحذيراته ضد الانحطاط الغربي جذبا المزيد من المعجبين المحافظين في الولايات المتحدة وخارجها، وأولهم بالطبع، كان دونالد ترامب.

ألينا بولياكوفا، الخبيرة في شؤون الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا في معهد (بروكينغز) في واشنطن، قالت: إن السيد بوتين كان يعرض حماية الهوية الوطنية ضد ما يُنظر إليه على أنه تهديدات لعالم معولم ليبرالي. حيث شملت هذه “التهديدات”، من بين أمور أخرى، زواج المثليين، والهجرة، وتسليم الإرادة السياسية إلى مؤسساتٍ دولية بعيدة.

قالت السيدة بولياكوفا: إنها مثالية رومانسية، حيث إن قلة في أوروبا تريد بالفعل العيش، في هذا النوع من النظام السياسي والاقتصادي الفاسد الذي تعيش فيه روسيا. وعلى الرغم من ذلك فهو نظام قوي. وتابعت قائلةً: “إنه يمنح الناس شيئًا متينًا ليتمسكوا به في عالمٍ يصبح غامضًا”. “إنه عالم ملموسٌ، إنه حقيقي، إنه يمثل شعورًا بالقومية”.

وقال كاسباروف: إن الغرب نفسه يتشارك المسؤولية عن جاذبية السيد بوتين الدائمة، كنموذجٍ للقيادة الاستبدادية. كانت الحكومات والشركات على استعدادٍ تام لتجاهل إجراءاته القمعية ضد المعارضين (السيد كاسباروف من بينهم)، والفساد الذي أصاب البيروقراطية والأعمال. “النموذج الحقيقي لحكومة بوتين هو اللصوصية غير المؤدلجة”.

وأضاف شارحًا: “عندما قرر العالم الحر، منذ 25 عامًا، أن من الصواب أن تقمع شعبك في وطنه، بينما تبقى متمتعًا بالأسواق وقبول العالم الحر، فقد كان يعقد صفقةً مع الشيطان، فبدلًا من تحرير الدكتاتوريات؛ تدفقت التأثيرات في الاتجاه الآخر، في نشر الفساد، وازدراء الطرق الديمقراطية”.

اسم المقالة الأصلي The Poison Putin Spreads الكاتب ستيفن لي مايرس، STEVEN LEE MYERS مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 17/3 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2018/03/17/sunday-review/the-poison-putin-spreads.html?rref=collection%2Fsectioncollection%2Fopinion عدد الكلمات 1122 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون