في مستهل العام بعد السابع



يبدو كما لو أن علينا اليوم -وضمير المتكلم الجمع هنا يحيل إلى كل من وجد نفسه مندفعًا في صفوف الذين جعلوا الثورة السورية حقيقة على غير انتظار، وإلى كل من آمن بها حقًا وضرورة- أن نستسلم إلى الإرادة الدولية التي لا تفصح عن نفسها بالقول بل بالفعل، ولا سيما حين تتيح لرأس النظام الكيمياوي أن يخرج فيلمًا يظهر فيه، وهو يقود سيارته، “كي يرى كيف هي الأمور في الغوطة”، وأن يقول بما يليق به من صفاقة حرصه على المدنيين! على أنّ صور الأطفال الخارجين مع عائلاتهم من الغوطة الشرقية كانت تجسد، بوضوح لا لبس فيه، ما يمكن أن يعنيه مثل هذا الاستسلام الذي يُدعى إليه شعب بأكمله، إلا أن الأهم هو الموضوع الذي يحيل إليه مثل هذا الافتراض الذي يبقى، رغم كل شيء، مجرد افتراض.

ويتجلى هذا الموضوع الأهم في سؤال أساس يمكن صوغه بطرق مختلفة: هل علينا اليوم، في مستهل العام بعد السابع على انطلاقها، أن نكف عن الحديث عن “الثورة السورية” بصيغة الحاضر؟ أو بصيغة أخرى أكثر مباشرة، أو إن شئتم، فجاجة: هل انتهت الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، وبات على الجميع أن يستيقظوا من حلم يقظة بدا قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لولا أن..؟

إذ سرعان ما تحيلنا مجرد نظرة سريعة، إلى مجريات السنوات السبع الماضية التي عاشتها سورية، إلى الإقرار بأن ما حظيت به الثورة السورية من الصفات لم يسبق أن حظيت به ثورة مماثلة من قبل: فهي الثورة المستحيلة، أو اليتيمة، أو المغدورة، أو المسروقة، وهي أيضًا الثورة المهدورة، أو المدهشة، أو المأساوية…

من المؤكد أنه لن يجيب بالنفي معظم الذين وجدوا أنفسهم في الثورة ممارسة وحياة، إن لم يكن كلهم، وهم اليوم إما في بلاد المنفى، أو نازحون على الأرض السورية التي انتزعت من هيمنة النظام، أو متوارون عن أنظار عملائه حيث يتواجد مستمرًا في استبداده. فليس بوسع هؤلاء الشباب الذين حطموا جدران الخوف على غير انتظار، في منتصف آذار/ مارس عام 2011، وقد باتوا يدركون اليوم المعنى الأعمق لما فعلوه، أن ينكروا لحظة واحدة استمرار الثورة، أو أن يقدموا على الإعلان عن نهايتها. ذلك أنهم، من ناحيتهم، بمعزل عما يراه سواهم ممن ركبوا قطار الثورة وتصدوا للحديث باسمها بلا توكيل من أحد، أو ما يراه بعض الذين اعتادوا على الارتزاق، فارتجلوا أنفسهم ممثلين لها أيضًا بلا توكيل، بعد أن وجدوا فيها مصدر رزق وثراء لهم، وكذلك بمعزل عن قراءات لبعض “المحللين الاستراتيجيين” مشبعة باليقين حول الحسم العسكري الذي يزعم النظام اقترابه والذي قارب نهايته، أو حول تقرير نهاية سورية بعد أن تقاسمها المحتلون الأربعة، أقول إنهم، هم الذين وجدوا أنفسهم في الثورة ممارسة وحياة، لا يرون ذلك كله، ليس بفعل غشاوة أصابت عيونهم، ولا عن رفض لرؤية الواقع، كما يتجلى للعالم أجمع، وفي مقدمته هم الذين دفعوا ولا يزالون يدفعون ثمن خروجهم على أعتى نظم الاستبداد وأكثرها وحشية وصفاقة، في عالمنا العربي. بل ربما لأنهم، وهم في غمرة الفعل الحقيقي في ميادين الثورة المختلفة، لا يمارسون النبوءات التي يتبارى في عرضها كل من ارتجلوا أنفسهم، بمناسبة هذه الثورة، محللين استراتيجيين ينطقون باسم النظام تارة، أو يعززون وجهة نظر هذا أو ذاك ممن يحتلون سورية اليوم.

ذلك لأنهم أدركوا على التوالي معاني الصفات التي اكتسبتها، من حيث لم تسع إليه، هذه الثورة في مسارها. كانوا يعرفون قبل خروجهم، على غرار رفاقهم في تونس والقاهرة، في شوارع المدن السورية مطالبين بالحرية وبالكرامة أنهم في طريقهم إلى أن يجعلوا من المستحيل واقعًا، إذ هدموا جدران الخوف الجاثمة على صدور آبائهم منذ نيف وأربعين عامًا. لكنهم أدركوا، منذ الأيام الأولى، أنهم وحدهم في الساحة، وأن الثورة التي فجَّروها باتت يتيمة، وذلك حين هتفوا في تظاهراتهم السلمية في كل المدن السورية، وهم يواجهون بصدورهم العارية رصاص من انتفضوا على استبداده واستملاكه الأرض والشعب: “يا الله مالنا غيرك، يا الله!”. أدركوا أيضًا، وفي الوقت نفسه، أن النظام سيسرق منهم ثورتهم في براءتها وفي وضوح أهدافها، ويلقي بها طعمًا سائغًا لجماعات أنشأها أو عمل على إنشائها، فتكاثرت كالفطر بتمييز نفسها عن أولئك الذين تبنوا شعارات الثورة وعلمها وأهدافها، زاعمة الإسلام مرجعها، وحاملة أسماء مرجعياتها قبل أربعة عشر قرنًا، ورافعة راياتها السوداء التي سرعان ما أتاحت لنظام الاستبداد فرصة الدعاية لها بوصفها تجسيد الإرهاب، مقدمًا البرهان على أنه إذ يقاتلها إنما يشارك في قتال الإرهاب والإرهابيين. ثم سرعان ما شهدوا كيف استحالت انتفاضتهم ثورة مغدورة، لا من قبل نظام الاستبداد المافيوي وحلفائه من أعدائها الذين تكالبوا عليها تزييفًا وتجريمًا وإنكارًا وتعهيرًا، بل من قبل معظم “الأصدقاء” الذين أرادوا استخدامها في تنفيذ بعض مآربهم؛ فالبلد الذي تنتمي إليه، والذي تدعو إلى أن تسود فيه الديمقراطية والكرامة والحرية، ليس كالبلاد الأخرى، بحكم الأبعاد السياسية والاستراتيجية لموقعه الجغرافي من جهة، وتعدد انتماءات سكانه الإثنية أو الدينية من جهة أخرى، فلا بد -والحال هذه- أن يبقى القديم على قدمه، بصورة أو بأخرى، تسهيلًا لتحقيق مآرب هؤلاء أو مصالح أولئك.

ثم إنهم عايشوا مختلف الطرق التي كانت تهدر بها معاني ثورتهم، طوال هذه السنوات السبع العجاف: ولم يكن هدر هذه المعاني من فعل النظام أو حلفائه وحدهم، بل جاء أيضًا، على وجه الخصوص، ممن كان من المنتظر منهم، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية أو الأيديولوجية، تجسيد معاني الثورة بفعل تاريخ ماضيهم النضالي. لكن أول ما فعلوه، وقد تصدوا لقيادة الثورة، أنهم أسرعوا إلى وضع أنفسهم خارجها، حين أطلقوا على أنفسهم صفة “المعارضة”، كما لو كانوا يعلنون انفصالهم عمَّن كانوا يمارسون الثورة يوميًا في مختلف بقاع سورية، وفي مختلف ميادينها، ولا سيما في محاولات إنشاء أولى بنى المجتمع المدني بدءًا بما عرف باسم التنسيقيات. لذلك، وبوصفهم معارضة، تلقفهم العالم الديمقراطي وتعامل معهم على هذا الأساس: أي أنهم يمثلون المعارضة مقابل نظام قائم معترف به دوليًا “أو شرعي”، كما يردد الروس والإيرانيون معًا، كما لو أننا في نظام ديمقراطي حقيقي. هكذا طُوِيَ تمثيل الثورة في الجامعة العربية، ثم طُرِحَ، على الصعيد الدولي، الحلُّ السياسي كمخرج وحيد مما صار يطلق عليه “الحرب الأهلية”، فبدأ بكل صفاقة تغييبُ الثورة، ومحاولة طمس أسبابها وأهدافها؛ ووجد نظام الاستبداد نفسه، وقد وضعه حُماتُه على سكة إعادة التأهيل، بعد أن صار أداة مطواعة بين أيديهم قادرًا على أن يعلن الانتصار على البلد الذي دمّر قراه ومدنه، وقتل وسجن وهجّر نصف شعبه على مرأى من العالم كله. هكذا كان هؤلاء الذين صنعوا الثورة والذين آمنوا بها حقًا وضرورة، يعيشون مأساوية ثورتهم التي باتت علامة استثنائية في عالمنا اليوم.

وعلى كل ذلك أو بالرغم منه، ولكي يثبتوا بالفعل أنها ثورة مدهشة، كانوا جميعًا، ما إن يخيم السلام في هذه المدينة أو تلك، يملؤون الشوارع والساحات، مستعيدين بل مجدّدين أيام الثورة الأولى، وكأنهم يصرخون في وجه العالم كله: لا تزال شعلة ثورتنا، على جروحها وآلامها، في أوج توهجها.

ليس ما سبق ضرب من الأوهام. بل هو واقع لمسه وتحسَّسَه كل من كان على صلة مع هؤلاء الذين لا يزالون هناك، على الأرض، وفي مختلف بقاع سورية. واقع يكاد يكون مماثلًا للذين نذروا أنفسهم لخدمة الثورة في أمكنة نزوحهم أو لجوئهم: في خدمة أهداف الثورة، على كل الصعد نظرًا وعملًا، سلوكًا وممارسة.

فكيف يسع من يراهم، أو من يسمعهم، أن يقول -رغم كل شيء- إن الثورة السورية قد انتهت؟ وهل تموت ثورة قضى في سبيلها مئات الآلاف من البشر، وأرغم على الهجرة من بيوتهم وقراهم أو مدنهم ملايين آخرون منهم، قبل أن تحقق أول هدف لها على الأقل: تحطيم نظام الاستبداد برأسه ورموزه؟

قد يقول البعض من اليأس: نعم. لكن التاريخ لم يسبق له أن قال مثل ذلك.


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون