من مخيم اليرموك “إلى طواويس النضال الثوري”



الرحيل القسري عن فلسطين، في عام 1948، جعل اللاجئين في بلدان الشتات يلتفون ويلتقون على “أمل” العودة؛ فأقاموا في مجتمعات اللجوء أسباب نهوضهم وآمالهم، إلى أن مدّوا جسورًا بين بعضهم البعض. أما النزوح من اليرموك، ومن كل منطقة سورية شهدت تطهيرًا عرقيًا وما تزال تنتظر مصيرها، فلا يمكن مقارنته مع النكبة التي واجه فيها الشعبَ الفلسطيني عدو استيطاني؛ حيث فقَد ابنُ المخيم كل المكونات والأسباب التي مكنته من الصمود والنهوض لمواجهة النكبة، ويسترد اللاجىء السوري الفلسطيني كلّ أسباب المقارنة والمقاربة، بين نكبته وبين كارثة شقيقه السوري.

عصف الموت والتدمير الجسدي والنفسي هو أفظع مما زرعته الكتب المدرسية في الأذهان، عن العدو الاستيطاني بحق الأجداد، فيما أبناؤهم وأحفادهم يواجهون اليوم أسوأ وأحط ممارسات القهر والقتل والإعدام والتدمير، من الإذلال إلى إعادة تسويق رواية “العودة لليرموك”، من بوابة التدمير الذي طال المخيم، وبقية المناطق التي أصابها ما أصاب اليرموك، تحت شعار “إعادة السيطرة”.

لهذه الأسباب، تبدو المقارنة بين النكبة والرحيل القسري عن المخيم زائفة، إن لم نتوسل التعيين والتحديد، ووضع النقاط فوق الحروف الظاهرة، وفي النتيجة، هناك من يمتهن العقل والضمير، خاصة إذا اعتبرنا أن مفهوم الهوية والانتماء، مع استجلاب البطولات “الزائفة بنخبها” المتنوعة، من ثقافية وأدبية وسياسية وفصائلية، يُنتج آثارًا كارثية على شعبٍ تثرثر فوق عقله شعارات زائفة، لتبدو كلمات “الشعب”، و”القضية”، و”حق العودة”، والسياسة، “والأدب المقاوم”، والثقافة والأحزاب الجماهيرية والثورية، قذارات تخرج من فمٍ، استبدل بدم الفلسطيني، البغي المستمر بالعقل والضمير.

نكبة اليرموك فيها من القساوة والظلم ما لا يستطيع ابن المخيم مقارنتها مع ما أُعدّ للسوري من ثقافةٍ لمواجهة نكبته في وطنه، ليجد كل مكونات العهر السياسي والثقافي التي التفت حول عقله، عندما احتضنها في المخيم، هي التي تحاربه خارج المكان، وتبرر فجيعته من اليسار البائد إلى اليمين المتعفن. “اليسار” المصرّ على إطلاق الشعارات والخطب الرنانة التي لا تُسمع سوى في قاعة صغيرة أمام الميكرفون، لتبدو الكرامة والضمير والنضال والعدالة شيئًا نائيًا، وعميقًا في الابتعاد عن الإنسان، وجيش “الكتبجية المناضلجية” يجتهد، ليبرر تدمير ما تبقى من المخيم، في تضاؤل العقل وتضخيم “الأفغان والنصرة والدواعش”، ليبقى العجز مطبقًا على العقل، والفاجعة مقيمة في اليرموك، وفي كل سورية.

للعام السابع، يقبَع خارج المخيم طواويس “النضال”، مزهوين بفكرة “المؤامرة”، بينما مجارير التحليل “الديالكتيكي” والصراع “الطبقي”، تنزف مع دماء الشهداء، في كل سورية، من درعا إلى حلب، ومن الرقة ودير الزور إلى حمص واللاذقية وبانياس، إلى الغوطتين، و”الحقيقة كل الحقيقة للجماهير” لا تعدو أكثر من “فتوى طائفية”، الهدف من ورائها زرع الفتنة، في عقل اللاجئ السوري الفلسطيني الذي يتداعى إلى ذهنه صور “مارك رودين” السويسري، وكوزو أكوماتو الياباني، و”اليتش راميراز سانشاز” كارلوس التشيلي، وجماعة “الألوية الحمراء” والشيوعيين الأوربيين… الخ الذين جالوا في اليرموك، في حضن “اليسار” الملتهم النهم للثورية وللقضية.

كلها لوحات منكسرة ومُنكرة، تافهة في ثقافة الهاوية، وأنت تتذكر بعد سبعة أعوام مواقف وتصريحات من كان يقف في طابور “الفاكهاني” في بيروت، ليقبض راتبه من صندوقٍ تمويله كله من “المؤامرة”، يغدو اليرموك مادة للهضم من عقل نازف بقذارات التاريخ الثوري، عند طواويس “النضالجية والمثقفجية”، لنستبدل بقامات مثل وديع حداد، وجورج حبش، وأبو علي مصطفى، وغسان كنفاني وحقيقته للجماهير، وناجي العلي، وأبو جهاد، وأبو سلمى، وجبرا، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، وبكل أولئك الذين اهتدى العقل بهم، وأنجبتهم فلسطين، واحتضن ثراهم اليرموك، من أجل أن نستبدل بهم ثقافة الأقزام، التي لن تعلو بعد اليوم عن حذاء السفاح المعجب به طواويس النضال الثوري. الطواويس التي نزع ريشها اليرموك، وأصبحت هباءً منثورًا، ستبقى عارية إلى الأبد، لن تلفها عباءة الشعب، ولا الشعارات القاضية بنصر السفاح، والابتهاج بإحياء طقس الانحناء للقاتل.


نزار السهلي


المصدر
جيرون