في فمي ماء.. وجه نظام الأسد بلا مكياج



من الطبيعي أن يتمّ توزيع الماء والطعام، على الهاربين من جحيم الموت والحصار في الغوطة الشرقية، عطشى وجوعى ومكلومين، لكن أن يكون ذلك مقابل الهتاف للأسد؛ فهذا -لعمري- هو العهر في أوضح صوره. إنها “سورية الأسد”، حيث من الطبيعي أن يكون البقاء مقابل الولاء، وحيث تلتقط الكاميرات صور “اللحظة التاريخية”، وليس غريبًا أن يكون بطل المشهد عضو برلمان الأسد (محمد قبنض)، إنها الوثيقة المدرسية التي تثبّت النتائج وتحفظ الدرجات، لعمل منهجي دام نحو 50 عامًا من حكم نظامٍ، هذه صورته بلا مكياج.

هتف السوريون، على مدى عقود، مجبرين تحت أعين المخابرات والمخبرين، حين كان الأسد يمنّ على مواطنيه، بافتتاح صالةٍ لبيع الخضار، أو مخبز، أو تعبيد طريق، أو مكافأة عيد، أو زرع عمود كهرباء، أو تدشين صورة وتمثال لقامته الممشوقة، إنه رجل استثنائي في زمن استثنائي، رجل حوّل الهزائم إلى انتصارات “بتلويحة من يديه”، فدبكت له فرقة أميّة، وأهدى له الرياضيون ميدالياتهم، ورجال الدين مجتمعين صلواتهم، وغنى له أباطرة النغم، كمُطعم كاسٍ، باعتباره فخر الصناعة الوطنية.

إنه زمن الأسد، بل زمن الأسود من الأب إلى الولد، حيث كان المعتقلون السياسيون، في العقود الماضية، حين تحين ساعة الانتخابات، يتوافدون من زنازينهم، زرافات ووحدانا، للبصم بالدم، لبقاء الأب الرؤوف، على الرغم من فقر الدم المعشش في أجسادهم.

هي “سوريا الأسد”، البلد الذي ينتخب فيها الأموات كما الأحياء، وهو الأسد الذي “تعربش” على قاسيون ليتربع مُنتشيًا ومتأملًا غضبه، حين يتحول إلى فحيحٍ أصفر يفتك بالحياة، ومن هناك يدرك تمامًا أنه يقتل الغوطة التي أحيَت دمشق، لآلاف السنين، بخيرها وكرمها، وفتحت مناهلها لكل عابر سبيل، مجهول أو معلوم، برحابة أشجار الجوز، وشموخ الحور، وخدود المشمش الخجلى إبان قطافه، وما قصّرت في حق أحد مرّ بها أو أقام فيها.

يوزّع (قبنض)، صاحب خيرات الأسد وعضو مجلس شعبه، السندويش على المهجرين، بطريقة عبّرت عنه وعن برلمانه وفضحت مصدر ماله. إن عزيز البيت والنفس تفرض عليه العزّة أن يختار الطريقة التي تليق بأصله ليقدّم بها نفسه، لا أن يهين الكرام الذين خذلهم كل من في الأرض، وإن أهل الغوطة ذوو تاريخ متجذر بالعطاء، وهذا ما لا يفقهه “قبنض” ولا لفيف النظام الذي آواه، بل يعرفه السوريون المعتقون بالإباء.

كتب حسان خليفة على صفحته في (فيسبوك)، باللهجة الدارجة على مقطع الفيديو الذي أظهر (قبنض) يوزع السندويش: “قبنض، أنت قليل عليك عضو مجلس الشعب، انت لازم تصير عضو مجلس الأمن، أو هيك شي مجلس أكبر وأشمل.. يليق بمقامك”. وكتب محمود الوهب باقتضاب: “الله محييك، يا محمد قبنض، فأنت أصدق من مثّل حقيقة النظام”.

وعلق إياد شربجي: “الفيديو اللي شفناه كان بيوضح الفرق بين الشبعان والجوعان، بس صار تبديل بالأدوار بقوة السلاح، بعمرو واحد شبعان ببيت أهلو، أو عندو ذرة كرامة، ما بيعمل اللي عملو هذا النذل”. وكتب عمر الفاروق: “سقطت الإنسانية ونفاق من يدعونها، عند أقدام أطفال ونساء الغوطة، عندما تقايض من يموت عطشًا على شربة ماء”، وعلق فارس الدمشقي: “هيك مجلس بدو هيك نواب”.

وصف محمد منصور المشهد: “لا توجد إهانة أكبر من الإهانة التي وجهها الجاهل الذليل محمد قبنض لبشار الأسد، إنه يقول للعالم، بالصوت والصورة: لم يهتف أهل الغوطة لبشار الأسد عن محبة ولا عن ولاء، بل هتفوا ليدفعوا عن أنفسهم غائلة الجوع والعطش”، وأضاف: “نحن نقول: لا حرج عليكم، يا أهل الغوطة الشرفاء، هتافكم عار على الباغي وذل له ولأزلامه”.

بعد تلك المشاهد القادمة من الغوطة، تعود للذاكرة سلسلة جرائم نظام الأسد بحق السوريين، وكيفية تعامل مجموعة دول “أصدقاء” الشعب السوري مع القضية السورية، ووجوب ما كان عليهم فعله كأصدقاء، يُفترض أنهم كرماء انتفضوا للحق، ولحفظ كرامة هذا الشعب كجزء من الكرامة الإنسانية، لتدور الأحداث وتثبت أن العالم ما زال يعيش عصر الظلمات، وأن انتهاء عصر الديكتاتوريات وبدء عصر الديمقراطيات ليس سوى خدعة بصرية، فالعصر الذي أخذ ينشأ هو عصر زعماء الانحطاط، حين يغذون بعضهم بأفعالهم.

إن القلق الذي ينتاب من يراقب المشهد، هو أن نرى عما قريب الأسد، وهو يدخل اجتماع قمة العرب، فيقف القادة يهتفون له بالروح والدم، مهنئين ومباركين انتصاره على شعبه، واختصاره الطريق عليهم، ليليها استقبال مجلس الأمن الدولي للأسد، كفاتح مجيد لهذا العصر، يدخل عليهم حاملًا صورة بوتين بيد، وصور قادة العالم “الحر” بيد، وعلى صدره وشاح الخامنئي يلقي آيات الله على الحاضرين، ليقف الأسد على المنصة الأممية، مهنئًا بميلاد هذا العصر، على أكوام الجثث والجوعى والمشردين، فيصفق زعماء العالم إلى الأبد إلى الأبد، ليثبت المشهد كما هو، بالتاريخ والمكان والحدث، إلى أجل غير مسمى.


حافظ قرقوط


المصدر
جيرون