الحب والحرية والإباء.. أقانيم الفروسية الخالدة



في موروثنا الأدبي صورٌ بهية للفروسية، لكنها على أهميتها وتعدد مظاهرها وتنوع أبطالها، تكاد تقتصر في معظمها، على مفهوم أحادي للشجاعة، يتمثل في الإقدام والشدة والغلبة، فهي تبتهج بالبطل والبطولة وتكسبها بعدًا مثاليًا؛ هكذا برز الأبطال الوطنيون والاجتماعيون، فتماشيًا مع المخيال الشعبي في محافظة السويداء، أكسبت رواية ممدوح عزام (قصر المطر) القائدَ الوطني سلطان الأطرش بعدًا أسطوريًا، وكذلك أكسب حنا مينة الطروسي في رواية (الشراع والعاصفة) بعدًا ملحميًا، على سبيل المثال لا الحصر، مما يدلّ دلالة أكيدة، على عطش عميق الجذور إلى البطل (حامي الظعينة)، حيًا يقتدى به، وميتًا يتخذ مثالًا للتنشئة على الأمن والحماية من القلق والخوف المستبطن تاريخيًا، منذ ظروف القهر والعوز والحرمان، الممتد ببعض نماذجه إلى الصحراء، حيث تتداول القبائل الكسب والنهب والغلبة، وحيث يجتمع الغالب والمغلوب في حيز شعوري واحد، من القلق والخوف والتحسّب، وفقًا لأخلاقيات الغارة التي فرضتها الطبيعة القاسية، أكثر مما أرادها البشر، أو تمتعوا بها، حتى خالطت طباعهم ودخلت في وعيهم وأعرافهم.

تنفرد من بين تلك الصور المتعددة للفروسية، عبر الزمن العربي والإسلامي، صورة الفارس العربي العاشق (عنترة بن شداد)، باعتبارها الحالة الأكمل للفروسية، بما توفر لها من عناصر أكسبتها فرادة وغنى، وأهمها حضور المرأة (الحبيبة) وتماهيها وتكاملها مع خواص الفارس ومناخ الفروسية المتعدد والمتناغم، حتى يمكننا أن نلاحظ انقطاعها عما قبلها وما بعدها، فهي لم تتكرر ولم يجر التثقف بقيمها العالية، ولا التأكيد على خصوصيتها، باعتبارها تجسّد يوتوبيا النبل الإنساني، ويفترض أنها تتفتح على التجدد والنمو والتسامي، وذلك أن الذهنية العربية، انصرفت في معظمها إلى مفهوم الشجاعة، باعتبارها الحالة الملازمة للكرم، وباعتبارهما (الشجاعة والكرم) خاصتين ضروريتين وحيويتين، لا تصحّ الفروسية ولا تكتمل إلا باجتماعهما، وعلى حين ذهب كثيرون، إلى اعتبار اندفاعة امرئ القيس إلى نحر ناقته إكرامًا للعذارى اللواتي رافقنه في لهوه، ذروةَ الفروسية والكرم، أرى أنها مجرد اندفاعة حمقاء، لا تدلّ إلا على الخفة، ومدى تحكّم الغريزة بصاحبها، حتى دفعته ليضحي بناقته، التي يفترض أن علاقته بها، قد تعدّت مجرد كونها وسيلة التنقل، وصولًا إلى احتلالها مرتبة رفيقة درب عزيزة، لا يفرط بها أمام ضغط نزواته، وهذه المفارقة تضع امرأ القيس في موقع العابث المستهتر المتلاف، لا الفارس المحب، ولا الكريم.

لم يكن من قبيل المصادفة أن تجمع اللغة العربية في كلمة (الجواد) بين الفرس والفارس، لأن كليهما من مستلزمات الفروسية وضروراتها، فكأنما الجواد وهو الفرس الأصيل النبيل، وفارسه شريكان في الأصالة والكرم والنبل والشجاعة، ومن هنا كان علينا، أن نحدد معايير القيمة المرتبطة بمفهوم الفروسية (المصطلح)، وتمييزها عن مفهوم القوة والشدة والإقدام، من دون محتواها ومضمونها الأخلاقي وجمالياتها، وذلك أنّ مصطلح الفروسية، يَفضُل مصطلح الشجاعة، بما له من دلالة على قيم أخلاقية وغنى روحي، يتجليان كقيمة وكسلوك، خارج مظاهر الشدة والعنف العاريين اللذين يساويان بين الشجاعة والجريمة أحيانًا، ويطمسان فروقهما.

وبالعودة إلى معنى الفروسية، كما جسدها شعريًا عنترة بن شداد، فقد صدر عنترة من روح محبّ شامل وعميق، لا يقف بعواطفه عند محبوبته عبلة، بل يتعداها إلى علاقة حميمة بفرسه، فهما يتشاركان في الوجع الإنساني المتخالط بنشوة الصمود ومقارعة الفرسان، وفي الإيهام المتلامح عبر العلاقة التخييلية والوجدانية بين لمعان صفحات السيوف وبارق ثغر الحبيبة المتبسّم، وكذلك في البعد الفروسي لشخصية الفارس، التي تمثلت في قبوله التحدي والقتل -كضرورة- ورفضه له كمبدأ وكأخلاق، وصولًا إلى رسم صورة لخصمه، تزيد من هيبته ووهرته في النفوس، وتضعه في موقع التميز، ولكن هذا الجانب النرجسي وهذه الثقة بالقوة والشجاعة، لم تمنعه من التعاطف مع غريمه، ومن إبدائه شيئًا من حزنه وأسفه عليه، فموت غريمه موت فارس كريم:

ومدجـج كـره الكـماة نـزالـه       لا ممعنًا هربًا ولا مستسلم

جادت له كفي بعاجل ضربة     بمهند صدق الكعوب مقوّم

وشككت بالرمح الأصمّ ثيابه     ليس الكريم عن القنا بمحرّم

ومن الملاحظ أن التعبير بالكناية (فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه) ارتقاء بالجسد البشري وتكريم له، وفيه دلالة واضحة على التعفف والترفع عن الانتشاء بالدم، والميل إلى إقامة علاقة إنسانية عميقة، بينه وبين خصمه المغلوب الذي قاده حظه إلى هذا النزال الصعب والخاسر.

هي صورة للفروسية النبيلة، كما جسدها عنترة بين شداد، وهي صورة لا تنطوي على الطابع القيمي الأخلاقي فحسب، بل تؤكّد ترفعها عن الشجاعة المحضة، التي قد تتخالط مع الجريمة المطلقة المجردة من أي قيمة إنسانية، ما عدا تمجيد القوة والقدرة على قتل الخصم وإذلاله، كما أنّ حضور المرأة الحبيبة، واختلاط أنفاسها بأنفاسه، وعدة حربه في معركة صراع الوجود، ارتقت إلى حالة ملحمية، تمازج فيها الموت والحياة والحب والكره، وتردد لهاث الخيل والفرسان، وتلاحم الجميع في أجواء المعركة، مساهمين في إبراز قيم الفروسية وأخلاقياتها واكتمالهما، عبر الفارس وفرسه في آن واحد، فالمعركة، تخصّ الجميع الفرسان والخيل والسيوف والرماح، كما تخصّ عبلة، باعتبارها حضورًا معنويًا بعيد الدلالة أيضًا، وهي كذلك في صراخ الفرسان وحمحمة الخيل وجأر الجميع بالألم، من شدة ما نهشت الرماح من أجسادهم الصابرة المكابرة على الجرح والألم، وصولًا إلى الصورة الجلية (إذ تقلّص الشفتان عن وضح الفم).

إنّ الفرادة المعنوية والخفق الروحي المتناغم، الذي تذهب إليه أجواء الفروسية في معلقة عنترة بن شداد، وما يوازيها من فرادة، في بثها للأجواء الحارة، ومجمل تداعياتها ومآلاتها، يجعلها قصيدة فريدة من الناحيتين الجمالية والأخلاقية، وحيث إن الجمالي هو الشرط الأخلاقي الوحيد في الفنون والآداب، أرى أن هذا الجاهلي الذي لعبت الأساطير بملامح شخصيته في تاريخ الأدب، وفي المخيال الشعبي على حد سواء، وكأنما هي حالة أنتجها هذا التزاوج الفيزيائي، بين زبيبة العبدة وشداد الحر، مما أدّى إلى الانقلاب الكبير في أخلاق ابن العبودية المتمرد الكاسر لكل قيوده، والثابت على طلب حريته وسيادته، حتى قدم مثلًا أعلى في الفروسية، باعتبارها أقنومًا من أقانيم الحب والحرية والكرم والتضحية وكره الحرب، رغم قبولها كضرورة طاغية لا بدّ منها.


جبر الشوفي


المصدر
جيرون