عرب سورية وكردها: يجمعهم المصير وتفرّقهم الأيديولوجيات



بدأت محنة السوريين مع الأيديولوجيات الحالمة، العابرة للحدود. وقد سبق العرب الكرد في هذا المجال، فكان تفكيرهم في ضرورة تحرير الأراضي العربية، وتوحيدها ضمن دولة واحدة، كانت -وربما ما زالت لدى بعضهم- حلمًا مشروعًا، وذلك انطلاقًا من استلهامهم لما كتب حول الدولة العربية – الإسلامية، وإنجازاتها على مختلف الصعد.

بالتناغم مع هذا التوجه، عملت مجموعة من المنظرين الحالمين الذين تأثروا من جانبهم بتجارب الأمم الأوروبية، لا سيما في ألمانيا وإيطاليا، على بناء نظرية قومية هجينة، تجمع بين التراث العربي والإسلامي، والأيديولوجيات القومية الحديثة، لا سيما بنسختيها: النازية والفاشية.

سرعان ما تلقّف العسكريون هذه النظرية، وحولوها إلى أيديولوجية لشرعنة سلطتهم وتسلّطهم، وترويج انطباع زائف، مفاده أن ما يقومون به إنما الغاية منه بلوغ الهدف الأكبر والأعز على قلب أي عربي، ألا وهو تحقيق الوحدة المنشودة، بعد إنجاز التحرير. وهكذا أقنعوا الناس، أو أجبروهم على القبول، بمزاعم حولوها إلى شعارات كبرى، باتت في كل مكان، وتُردد في جميع المناسبات، وذلك للتغطية على جهودهم في ميدان الانقضاض على الداخل الوطني بموارده وبشره، ليصبح مجرد مزرعة ورعايا في قبضة من أوهموا الناس باستعدادات استراتيجية لمعركة تحرير مفصلية، أدرك الجميع، ولو متأخرًا، بأنها لن تأتي.

وقد جسّدت المرحلة الأسدية ذروة الديماغوجيا القوموية التي سرعان ما تلاحمت مع الديماغوجيا الإيرانية، وأصبحنا أمام ظاهرة جديدة من الشعارات الكبرى التضليلية، شعارات تتمحور حول مقاومة هلامية، وممانعة خادعة، تبين لاحقًا أنها كانت مجرد أدوات في مشروع مذهبي الغلاف، لكنه في حقيقته مشروع تآمري تدميري توسعي.

أما الكرد، فقد ظلوا على مدى عقود يعملون عبر أحزابهم السورية، من أجل الاعتراف الدستوري بخصوصيتهم، وحقوقهم، ويطالبون برفع الظلم عنهم، هذا الظلم الذي تمثّل في جملة مشاريع تمييزية، استهدفت وجودهم القومي، وتهميشهم، والسيطرة على موارد مناطقهم.

كان التفاعل الكردي المستمر مع المعارضة السورية، وذلك من موقع القناعة التامة بضرورة الربط بين قضيتهم بوصفها قضية وطنية سورية، والتغيير الديمقراطي الذي يكون الضمانة المطمئنة لجميع السوريين.

وإدراكًا من حافظ الأسد لأهمية الورقة الكردية، على المستويين السوري والإقليمي؛ لجأ إلى احتضان حزب العمال الكردستاني في أوائل الثمانينات، ليكون أداته في تمزيق المجتمع الكردي السوري، والتحكم به، كما كان قد فعل مع المجتمع السوري العام، واللافت في المسيرة الطويلة لعلاقات هذا الحزب مع النظامين السوري والإيراني، أنه هو الآخر قد أصبح تلميذًا في مدرسة الشعارات الكبرى العامة التجييشية، التي تفتقر إلى أي مضمون ملموس.

مع الوقت، تمكّن الحزب المعني من استقطاب جمهور واسع من الكرد السوريين، مستفيدًا من ضعف الأحزاب الكردية السورية، وتشرذمها، وانشغالها بخلافات هامشية بينية، لم يكن النظام بعيدًا عن معظمها. كما أنه استفاد كثيرًا من دعم النظام له، وحصوله على فرصة التحرك بحرية داخل سورية ولبنان.

كان الشعار الرئيس لهذا الحزب هو تحرير كردستان الكبرى وتوحيدها. وما زلنا نتذكر التصريحات القوموية النارية التي كان يطلقها زعيمه من البقاع اللبناني أو من ضواحي دمشق.

بعد أن قام نظام حافظ الأسد بطرد أوجلان من سورية، بناء على ضغط تركي عام 1998، ظلت العلاقات الأمنية بين منظومة حزب العمال الكردستاني والنظام السوري مستمرة، وكان ذلك بالتنسيق الكامل مع النظام الإيراني، وذلك من باب الاستعداد لاحتمالات المستقبل.

في بداية انطلاقة الثورة السورية، في منتصف آذار/ مارس 2011 عاد النظام السوري في عهد الأسد الابن، بالتوافق التام مع النظام الإيراني، إلى استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني، ولكن تحت اسم جديد هو “حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذي تم ترويجه على أنه حزب كردي سوري.

وهكذا عاد هذا الحزب ليدخل إلى الساحة الكردية السورية من جديد، عبر بوابة النظام الذي سلمه المناطق الكردية السورية، وتقاسم معه المهمات والأدوار، مقابل أن يقوم بتحييد كل القوى الكردية المؤيدة للثورة السورية، والمتفاعلة معها، وتم ذلك بإجبارها على التزام الصمت عبر الإرهاب أو حتى بفعل التغييب.

بدأت الحملة الديماغوجية التي تذرع بها الحزب المذكور، من خلال الدعوة إلى التركيز على الخصوصية الكردية، والدفاع عن المناطق الكردية، والعمل من أجل الحقوق الكردية، وعدم الانخراط في الصراع الدائر في البلد بين قوى الثورة وقوى النظام.

شارك هذا الحزب، تحت شعار مواجهة الإرهاب، في مواجهات إشكالية في محافظة الحسكة بالتنسيق مع النظام، وأساء كثيرًا إلى العلاقة العربية-الكردية حينما هاجم بلدات عربية مثل تل حميس، وتل براك، والأحياء الجنوبية من مدينة الحسكة، ومناطق في جنوب المحافظة.

يبدو أنه، من الجانب الآخر، كانت هناك قوى تتحرك من جانبها لتخريب العلاقة المعنية، وذلك بناء على أوامر من جهات تقتضي استراتيجياتها ذلك. ونشير هنا على سبيل المثال (سري كانيي) رأس العين 2012-2013.

ومع تطور الأوضاع، وبروز (داعش) الذي يثير دوره وظهوره وتلاشيه ألف سؤال واستفسار، حدث ما يمكن أن نسميه تقاطع المصالح، بين الحزب المعني والقوات الروسية أولًا في منطقة عفرين، ومن ثم بينه وبين القوات الأميركية في منطقتي (كوباني/ عفرين) والجزيرة، أي في المنطقة الواقعة بين نهر الفرات غربًا، والحدود العراقية شرقًا.

كل ذلك منح الفرصة لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” للتحكم بالمجتمع الكردي، وفرض سلطة الأمر الواقع عليه. فبدأ بفرض الضرائب والإتاوات الاعتباطية، وفرض التجنيد الإجباري، بغية استخدام شباب الكرد في معارك، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وذلك كما فعل في كل من تل أبيض ومنبج والرقة وغيرها.

في الوقت ذاته، فرضت إدارة الحزب المذكور المفروضة من جانب واحد التعليمَ الكردي بصورة مزاجية، من دون توفير الحد الأدنى للشروط الضرورية لتعليم كهذا، الأمر الذي أدى عمليًا إلى تدمير التعليم، في مناطق سيطرة الإدارة المعنية. وكل ذلك دفع بأعداد كبيرة من الكرد نحو الهجرة، في سعي منهم لإنقاذ أبنائهم من القتل والتجهيل.

ولكن رغم كل ما جرى ويجري، ما زلنا نرى أن المشروع الوطني السوري هو الملاذ الضامن للسوريين جميعًا، إلا أن مشروعًا كهذا يستوجب القطع مع المشاريع العابرة للحدود بأسمائها المختلفة، والتركيز على مصلحة السوريين بكل انتماءاتهم أولًا، مع التأكيد أن ذلك ليس معناه التنكّر لسائر الخصوصيات، أو رفض امتداداتها الإقليمية، وإنما معناه الانطلاق من مصلحة السوريين أولًا، لتكون سورية مستقبلًا جسرًا للتواصل بين شعوب المنطقة ودولها، ومن دون أي تهديد للأمن والسلام، بل تكون ميدانًا لتمازج حضاري جديد، يكون أساسًا لتنمية مستدامة في مختلف الميادين، ولصالح الجميع. وكل ذلك يستوجب طمأنة السوريين، كل السوريين، وإقناعهم بأن البديل المستقبلي سيكون أفضل من نظام الاستبداد والإفساد، وإلا؛ فستستمر عجلة القتل والتدمير في الدوران، حتى تستكمل عملية طحن سورية والسوريين.


عبد الباسط سيدا


المصدر
جيرون