هل ما يزال السوريون شعبًا واحدًا؟



حين هتف عريف الحفل: “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، بمناسبة الذكرى السابعة للثورة السورية، في قاعة فسيحة ضمت عشرات الناشطين القادمين من معظم الولايات الأميركية إلى العاصمة واشنطن؛ صفق البعض بحرارة وآخرون على تردد، والبعض القليل لم يصفق. لا بد أن ذواكر الكل رحلت إلى الشهور الأولى من بداية الثورة، إذ كان ذلك الهتاف يحاكي مشاعر معظم السوريين، على اختلاف مرجعياتهم الدينية والعرقية، لكن تلك المشاعر لم تعد كما كانت، وكان ذلك واضحًا على وجوه المحتفلين، بعد مرور سبع سنوات، حفلت بأحداث بالغة القسوة والألم، صنعها نظام الأسد أولًا، ومهد من خلال تداعياتها لاستقدام قوى استعمارية، واحتلالية خارجية، ولاستدعاء قوًى ظلامية محلية، دعمتها دول إقليمية ودولية، بغية إجهاض ثورة الحرية والعدالة والمساواة، لكن مشاهد الدمار والقتل لم تكن تعني للمحتفلين في القاعة انتصارًا لقوة البطش على فكرة الثورة وأهدافها، بل كانت مشاعرهم صدًى لواقع التمزق الذي أفرزته تلك الأحداث على مكونات الشعب السوري الواحد.

في صباح اليوم التالي، اتصل بي صديقي المسيحي من ولاية كاليفورنيا، ليسألني عن مؤسسة إغاثية موثوقة، ليرسل من خلالها دعمًا ماليًا لأهل الغوطة، ومع أنه لا يمثل كل أهل قريته المسيحية المتاخمة لمدينة حمص شرقًا، لكنه مثّل الضمير الحيَّ للأحرار على اختلاف هوياتهم، ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن الشعب السوري لم يعد واحدًا، كما بدا في تظاهرات الشهور الستة الأولى، بل غدا شعوبًا، كما أحبَّ لافروف وزير خارجية روسيا نعته كعنوان لمؤتمر سوتشي، وكما عمل دي ميستورا مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، على تأكيد هذا التمزق، من خلال تأليف وفود للمعارضة تمثل -حسب زعمه- أطياف الشعب السوري المعارض، كما اختارت كل دولة من الدول المتورطة في الحرب السورية دعمَ مجموعة خاصة إثنية أو قومية، لتحارب عنها بالوكالة في سبيل تحقيق مصالحها، وهكذا أصبح الإعلام العالمي لا يتحدث عن شعب سوري واحد يتعرض للإبادة، بل عن سنّة وعلويين وشيعة، وأزيديين وآشوريين، ودروز، وأكراد، وعن فصائل بمسمياتها الكثيرة، حتى غدا بعض الأجانب لا يكتفون بجوابك: أنا سوري، بل يسألونك عن طائفتك وقوميتك.

لقد نجحت أجهزة أمن النظام المحترفة في تمزيق نسيج الشعب السوري، بدءًا من تسريب فيديو عن مجزرة قرية (البيضا) السنيّة، بتاريخ 12 نيسان/ أبريل 2011، أي بعد أقل من شهر من اندلاع التظاهرات في درعا، وانتشارها في معظم المدن والقرى السورية، حيث أظهر ذلك الشريط عشرات المواطنين مكبلين بعضهم فوق بعض، في ساحة قريبة من البلدة اقتيدوا إليها، فيما يتسلى عناصر الأمن بركلهم وضربهم على رؤوسهم ومختلف أجزاء أجسامهم، بطريقة سادية، وهم يصرخون بلهجتهم الساحلية الجبلية التي يعرفها كل السوريين: “بدكن حرية، هي الحرية يا خونة، يا عملاء”، وعلى إثرها أصدر 136 من المثقفين والفنانين والكتاب والصحفيين العرب والأكراد بيانًا قويًا، أعلنوا فيه تضامنهم الكامل مع الحركة الشعبية السورية ومطالبها بالديمقراطية والحرية، واستنكروا بشدة الطريقة الوحشية التي تعامل بها أفراد الأمن السوري مع المتظاهرين، والتي تخالف كل شرائع حقوق الإنسان، وانتهى البيان إلى أن سورية حرة وديمقراطية مكسب للسوريين وللحرية في أنحاء المعمورة. لقد صنع ذلك الشريط الذي عرضته وسائل الإعلام حول العالم، كما وسائل التواصل الاجتماعي، حالًا من الانقسام الطائفي الخطير بين الطائفة العلوية المحسوبة على السلطة، وبين معظم مكونات الشعب السوري. وحين سألت صديقي العلوي عن رأيه في الشريط، قال: “إنه مفبرك”، لكنه لم يتمالك نفسه من ابتسام العارف بالحقيقة.

ذلك الشريط كان يمكن أن يجمع مكونات الشعب السوري، ومنها الطائفة العلوية، ضد السلطة، لكنها، أي السلطة، كانت قد اخترقت بعناصرها صفوف المتظاهرين منذ الأيام الأولى، وجعلتهم يهتفون: “العلوية ع التابوت والمسيحية على بيروت”، وأطلقت عتاة التكفيريين من سجونها، وسهّلت لهم تشكيل فصائل جهادية متخلفة، وبدأت تتناوب معهم، في قصف الأحياء السكنية للمسيحيين والدروز والعلويين، بمدافع الهاون في دمشق، وتوقع بينهم قتلى وجرحى، وتنسب ذلك القصف إلى ما أسمتها العصابات الإرهابية في الغوطة الشرقية، لتبرير قصفها بالطائرات لبلدات الغوطتين الشرقية والغربية، وتدميرها فوق رؤوس سكانها.

لقد استخدم نظام الأسد الفتنة الطائفية والعرقية، وكل وسائل القمع العنيف، بحيث أجهضت إمكانية التلاحم بين مكونات الشعب السوري، واستطاع تحييد المسيحيين، بل كسب الكثيرين منهم في صفه، كما تعامل مع تظاهرات الدروز بفظاظة أقل، وتساهل مع الأكراد في منطقة الجزيرة السورية، وتركهم ينعمون مؤقتًا بحكم شبه ذاتي تحت إشرافهم. كما شجع تنظيم (داعش) وتحالف معه لطرد (الجيش الحر) الذي كان سيطر على 80 بالمئة من مساحة سورية، وترك تنظيم (النصرة) يتمدد في ريف حلب وإدلب ودرعا، ويمارس قمعه للمواطنين تحت عنوان الشريعة الإسلامية، فيما اكتفت السويداء بالامتناع عن إرسال أبنائها لقتل أهل وطنهم، وصمتت مدينة السلمية، بعدما كانت من أوائل المدن الثائرة، وفي سعير تلك الحرب المحمومة ضد تطلعات الشعب السوري، انتعشت فكرة الجهاد عند بسطاء المسلمين، والتي استنهضتها فصائل مدعومة من قوى خارجية، رأت في نجاح الثورة خطرًا على وجودها، وانتشرت صور ومقاطع فيديو لفظائع، قامت بها تلك الفصائل ضد المواطنين تحت ظل أعلام سوداء تحمل عبارة: “الله أكبر”.

نعم، لقد انقسم المجتمع السوري إلى مجتمعات وطوائف وقوميات، وبدا أن العودة إلى التلاحم شبه مستحيلة. لكن ذلك التمزق سوف يتلاشى رويدًا رويدًا، بعد هزيمة النظام، وإقامة دولة القانون والمساواة والمواطنة.

هذا ما حدث في أوروبا وأميركا، بعد حروب طائفية وعرقية طاحنة، وبالتأكيد فإن النظام سيسقط غدًا أو بعد غد، مهما طغى، لأن إرادة الحرية لا تنكسر، وإن تعرضت للتراجع والنكوص.


توفيق الحلاق


المصدر
جيرون