أول صفعة



استدعي إلى أحد الفروع الأمنية، وكان قد قدم طلبًا للحصول على جواز سفر، ففوجئ باتصال مدير مكتب رئيس الفرع شخصيًا، به! حدد له موعدًا، وجاء في الموعد تمامًا. وما إن وصل إلى المحرس المدجج بالمسلحين، حتى سأله أحد العناصر، قبل أن يسأل هو: “الدكتور فرحان؟”

لم يكن الموقف ليسمح له بالتصحيح، فهو ليس دكتورًا! وبالكاد حصل على شهادة “البكلوريا”. لكنه اكتفى -بعد تردد- بهز رأسه كالأبله: “نعم”… فانبرى العنصر بحماسة وقال: “تفضل دكتور فرحان، تفضل”. ومشى أمامه…

رافقه في زواريب وممرات ملتوية، وقبل أن يصل إلى مكتب الرئيس بزاروب أو اثنين، استوقفهما ثالث، واقتاده بدوره إلى مكتب رئيس الفرع…

ظنه تحقيقًا، لكن الرئيس، خرج من خلف مكتبه وصافحه مرحبًا: “أهلين دكتور فرحان”، وقبل أن يستقر في مقعده، أخرج من درج مكتبه جواز سفر، وقدمه له: “تفضل دكتور، جواز سفرك جاهز”! لم تكن الفرصة مواتية هذه المرة –أيضًا- للتصحيح، أخذ جواز سفره دهشًا، وفتح الرئيس معه مباشرة، موضوعًا آخر، كما لو أن موضوع الجواز كان أمرًا تافهًا، لا قيمة له، على الرغم من انتظاره الذي دام أكثر من خمس سنوات، ولم يحصل عليه!

حدثه الرئيس عن الإسلاميين، ولم يكن منهم، وحدثه بدوره عن المعتقلين السابقين، وكان منهم، شرح له بأن حقوقهم مهدورة، وأن الجهات الأمنية تريد لو تنشق الأرض وتبلعهم! وضرب له أصحاب العمائم في إيران مثلًا، حيث شكلوا لجنة عليا برئاسة المرشد الأعلى، مهمتها ربط المعتقلين بالمجتمع! استمع الرئيس باهتمام وصمت! لم يغضب. لم يحزن. لم يبتسم! لكنه أكد له أن حقوق المعتقلين السوريين مصانة. ضرب له “الدكتور” أمثلة كثيرة، وذكر بعض الأسماء فسجلها الرئيس باهتمام على ورقة أمامه، وطلب منه أن يبقى على اتصال معه حول هذا الموضوع، وقبل أن يغادر قال له: لم تطلب شيئا لنفسك! وقال: “إن احتجت لأي شيء، فاتصل بي، واعتبر أن لك أخًا هنا، دكتور”! كم كرر هذه الكلمة “دكتور”، لكن، وفي كل مرة، لم يكن الموقف يسمح له أن يشرح أو يصحح.

ما إن خرج حتى تلقفه المرافق، واقتاده إلى رئيس مكتب الرئيس، كي يدفع رسوم جواز السفر. “تفضل دكتور. أهلين دكتور. لا تؤاخذنا دكتور. مع السلامة دكتور”. لم يفهم حينها، سبب كل هذه الحفاوة والاحترام المباغت. هل كان دكتورًا حقًا!؟ أم كان محض كابوس!؟ تشابه بالأسماء!؟ وهل يخطئ الأمن في مسألة كهذه!؟ “والله إذا طلع تشابه أسماء، أكلنا هوا!” لكنه جواز سفر!! وتذكر الجواز، وتحسس حوافه في جيبه، وكم كانت دهشته كبيرة عندما خرج من الفرع، وتأكد من جديد، مئة بالمئة، أن الصورة صورته وجواز السفر له بالفعل.. لكن صفة دكتور عادت لتهيمن على تفكيره وروحه.

فيما بعد -بالمصادفة- علم أن رئيس الفرع هذا، هو ذاك النقيب في الأمن العسكري، الذي كان أول من حقق معه، في مبنى هيئة الأركان، منذ عشرين عامًا، وأشرف على تعذيبه، في فرع التحقيق العسكري، وأنه هو أول من صفعه على وجهه… كان “الدكتور” قد نسيه تمامًا، لكن الرئيس لم ينس… أما لماذا لقبه بالدكتور، فهذا ما لم يجد له جوابًا حتى الآن!!


غسان الجباعي


المصدر
جيرون