الغوطة: نزع الروح عن الجسد



تصلنا صور أفواج النساء والشيوخ والأطفال، وهم يمشون بين الأنقاض والحُفر ووسط الغبار، لم يتسن لهم الاستحمام ولا غسل الثياب، قبل الرحيل عن بيوتهم أو عن ملاجئهم. أجسادهم مهدودة، يحملون أطفالهم وبعض متاعهم.. تسير جموعهم في صمت وحزن نحو باصات الترحيل، كأنهم خرجوا للتو من قبورٍ، ويتوجهون إلى قبور أقسى وأظلم، يحيط بهم المسلحون يضبطون مسيرهم ويوجهونه.

انتابني شعور مؤلم وخاص نحو هؤلاء المُرحّلين عن ديارهم، ردّني إلى ذكريات كانت لي معهم، اعتزّ بها، فأنا أزعم أني أعرفهم، قد لا يكون هؤلاء الذين أراهم اليوم على شاشات الفضائيات وقنوات (يوتيوب) هم من عرفتهم منذ ثمان وعشرين سنة، لكني أزعم أن بعضهم عرفته وتحدثت إليه، إنهم الرجال المسنون، فقد كانوا حينذاك أرباب الأسر التي زرتها وتحدثت إليها، أما الآخرون فقد كانوا الأطفال الذين كنت أسجل بياناتهم في استمارة بحثي، هم أولاد أو أحفاد من كنت أعرفهم.

في صيف عام 1990، كنت أزور قرى الغوطة الشرقية، أجمع بيانات عن عيّنة من سكانها، وأتحدث إليهم، زرت في ذلك الحين 212 أسرة من خمس قرى وبلدات، وهي عينة بحثي في كلية التربية. حينئذ، لم أترك لا شاردة أو واردة إلا سألتهم عنها، فأنا بطبعي لا أكتفي بأسئلة البحث، وقد فعلت ذلك عندما كنت أزور سكان عشوائيات دمشق وريفها عام 1996، فكثيرًا ما كنت أخرج عن النص، حين يُلح عليّ فضولي كي أعرف أكثر.

صارت استبيانات بحثي شبيهة بأوراق الموظفين “العدادين” الذين كانوا يجمعون البيانات، في أوقات التعداد السكاني الذي يقوم بتنفيذه المكتب المركزي للإحصاء كل عشرة أعوام. كنت أسأل عن أفراد العائلة: أوضاعهم التعليمية، من كان يدرس ومن انقطع عن الدراسة، ولماذا؟ ومن يعمل وما أعمارهم وما طبيعة أعمالهم، وعن وارداتهم المادية، اسأل عن زواجهم وطلاقهم، وعن لقاحات أطفالهم ووفياتهم، عن زراعاتهم وحرفهم التي يزاولونها، وعن حالة التجارة عندهم… وكانوا يشكون بمرارة من تلوث نهر بردى، وهو مصدر الري الأساس عندهم، وكيف لوثت مياهه مياه آبارهم، وعن التهاب أكبادهم، وعن اصفرار أوراق أشجارهم وموتها.. كانت الغوطة -كغيرها من مناطق ريف دمشق- قد دخلت حقبة الفوضى العمرانية وتدمير أراضيها الزراعية، كانت الحفلة التي قادها محافظ ريف دمشق “الزيود”.

في فترات الصباح، لم يكن يتسنى لي مقابلة الناس، لأن الرجال في حقولهم وبساتينهم، لذلك كانت زياراتي مثمرة، في فترات ما قبل غروب الشمس ممتدة لعدة ساعات كل يوم. في كثير من الأحيان، عند العصر، تتحول لقاءاتنا إلى جلسات نناقش فيها مواضيع تهمهم وتهمني أيضًا، تتصل بعاداتهم وتقاليدهم وبأحوال التعليم في مدارسهم، ومشكلات تأنيثه. لا يفوتون فرصة إلا يعبّرون فيها عن تعلقهم بثقافتهم، وحبهم لأرضهم واستحالة تركهم لبيوتهم وبساتينهم والرحيل عنها.

من دون قصد ولا تخطيط، كنت أجد نفسي في وضع الباحث الأنثروبولوجي الذي يعيش مع الناس ويجمع البيانات عنهم.. كانوا مرتاحين ومتأكدين من أني لن أسيء إليهم، وأني أعمل لما فيه خيرهم.. لقد نشأت علاقة طيبة بيني وبينهم، ولم يشكل لي هذا التعلق أي حرج علمي، فأنا لم أكن أعتقد كثيرًا بفكرة الموضوعية، في البحث العلمي. من قال إن الموضوعية العلمية تعني برودة العواطف والمشاعر تجاه من تتعامل معهم؟ لقد منحوني ثقتهم، وأردت أن أكون أمينًا لهم وصادقًا معهم… هكذا فهمت الموضوعية.

كتبت رسالتي العلمية عن بنية الأسرة الريفية في الغوطة، ودعوت بعض من توطدت علاقتي بهم لحضور جلسة المناقشة العلنية. فيما بعد سنحت لي الفرصة لنشر نتائج بحثي في كتابٍ، عندما وافق على نشره المفكر المرحوم أنطون مقدسي، فهو مدير النشر في وزارة الثقافة في ذلك الحين، وبتزكية من أستاذتي فاطمة الجيوشي. إنه كتابي الأول المنشور وموضوعه غوطة دمشق، أفخر به، ولا أتذكر عدد المرات التي أعدت قراءته.

أهالي الغوطة هم من أوائل المنتفضين سلميًا عام 2011، لكنهم ابتلوا بقوى ظلامية متشددة حكمتهم من الداخل، وبقوى أخرى طوقتهم وحاصرتهم وجوعتهم وقتلتهم ثم أخرجتهم من بيوتهم!

محبتي لكم يا أهل الغوطة.


ريمون المعلولي


المصدر
جيرون