وول ستريت جورنال: دورة سورية تتكرر: حصار، تجويع، استسلام



مزق النظام مسقط رأس الكاتب في عام 2012. الآن يقدم تقاريره عن السوريين الذين يعانون المصير نفسه.

تحت حصار وحشي فرضه الجيش السوري، فر سكان الغوطة الشرقية من منازلهم يوم 15 آذار/ مارس. الصورة: عمر صناديقي/ رويترز

أقضي أيامي محاولًا الوصول إلى السوريين المختبئين من الحرب التي ما تزال تمطرهم/ تنهال عليهم، حتى وأنا أحاول أن أنسى تجربتي الخاصة لتلك الحرب قبل ستة أعوام. في الأسابيع الأخيرة، تمكنتُ من الاتصال، هاتفيًا وكتابيًا، مع أشخاص في ضاحية الغوطة الشرقية لدمشق. إنهم يختبئون في الأقبية والأنفاق، ويجمّعون الطعام لإطعام أطفالهم الجياع. ينطقون بمشاعر شجاعة حتى وأنا أسمع الخوف من ارتجافات أصواتهم.

أشعر بالخجل من بعض الأسئلة التي يجب أن أطرحها: كيف حالكم؟ كيف حال الوضع تحت الأرض؟ ماذا يحدث عندما تضرب الصواريخ بالقرب منكم؟ في بعض الأحيان يردّون عليّ بحدّة: هل أنت جادٌ بهذه الأسئلة؟

عندها فقط، أخبرهم أنني من مدينة حمص، من حي بابا عمرو، وهو المكان الأول الذي حاصره نظام بشار الأسد، وقُصف حتى الخضوع، في عام 2012. أرادت الحكومة أن تجبر المتمردين على الانسحاب، ولكن أيضًا لتجعله مثالًا للمدينة.

يخلق هذا البوح رابطًا فوريًّا، بيني: الصحفي السوري المنفي في ألمانيا، وبينهم: السوريون الذين يتعرضون للقصف من حكومتهم. الغوطة الشرقية هي واحدة من آخر مناطق المتمردين التي يريد النظام الاستيلاء عليها حيث يعزز سيطرته.

“أعرف الإجابة عن سؤالي الصحفي الخاص بي، حول صوت صاروخ وهو يقترب: إن الصوت الهادر المرعب يجعلك تتساءل إن كانت هذه هي اللحظة التي فيها ستغادر روحك جسدك”.

قبل الغوطة الشرقية، كان وادي بردى. وقبل ذلك، حلب. وقبل ذلك العديد من المدن والأحياء المعروفة. جميعها خضعت لقواعد اللعبة ذاتها التي تقوم على الحصار والقصف: الجوع أو الاستسلام.

(بابا عمرو)، وهي منطقة منخفضة الدخل على أطراف حمص، كان المكان المناسب لكثير من أكثر ذكريات طفولتي سعادةً، كوني الطفل الأصغر المدلّل بعمر الخمس سنوات. كنت أذهب كلّ صباحٍ لشراء الخبز العربي الدائري الطازج، وقطعة من الكاتو أو المعجنات من مخبز الحي. مالك المخبز، أبو حسن، لا يناديني أبدًا باسمي، بل يشير إليّ بابن الآنسة (ابن المعلمة)، وهو تعبير عن الاحترام لأمي، التي كانت مديرة المدرسة الابتدائية.

في السادسة عشرة من عمري، أخذت موعد غرامي الأول في حديقة صغيرة، في (بابا عمرو)، بالكاد يمكن وصفها بمنتزه. لم يكن لدي أيّ مالٍ لأشتري لها صودا أو كيس رقائق.. جلسنا على مقعد وتحدثنا لساعات.

جعل والداي من التعليم أولويتنا، وشجعانا على التركيز على تعلم اللغة الإنكليزية. كان والدي يقول دائمًا: “اللغة الإنكليزية سوف تساعدك في مستقبلك”. في عام 2010، بدأت سنتي الأولى في الجامعة في حمص، ودرست الهندسة المدنية.

في عام 2011، مع تحول مسعى السوريين للمشاركة في “الربيع العربي”، إلى حربٍ أهلية، كان بابا عمرو أحد المناطق الأولى التي استولى عليها المتمردون المناهضون للحكومة، والتي سرعان ما أصبحت هدفًا للنظام. عندما رأيت الناس الذين أعرفهم يُقتلون بالرصاص، أصبحت ناشطًا واستخدمت معرفتي باللغة الإنكليزية للتواصل مع منظمات حقوق الإنسان.

المؤلف في (بابا عمرو) في أوائل عام 2012، يرتدي درعًا مستعارًا. الصورة: نور الأقرع

ما عايشناه في (بابا عمرو) يصغر مقارنةً مع ما يعيشه سكان الغوطة، لكني أستطيع أن أحكي. “أعرف الإجابة عن سؤالي الصحفي الخاص بي حول صوت صاروخ وهو يقترب: إن الصوت الهادر المرعب يجعلك تتساءل إن كانت هذه هي اللحظة التي فيها ستغادر روحك جسدك”.

بعد حوالي 20 يومًا من الحصار والقصف المتواصلين، هربتُ من (بابا عمرو) مع آخرين كانوا يختبئون معي. انتظرنا حتى حلول الظلام، وتسللنا نحو طرف الحي الذي تعرض للقصف لدرجة أن معظم المعالم لا يمكن التعرف عليها. وصلنا أخيرًا إلى أنبوب مياه غير منتهٍ بعد، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام، وعرضه ثلاثة أقدام.

مشينا ساعتين، منحني الظهر، من خلال الأنبوب الرطب. كانت رائحة العفن خانقة، ولم يكن هناك أيّ ضوءٍ ظاهر في نهايته لإرشادنا. عندما وصلنا أخيرًا إلى الفتحة، كان علينا أن نبقى هادئين، من دون أن نتمكن حتى من إشعال سيجارة، لأن حاجز تفتيشٍ تابع للجيش كان في مكانٍ قريب.

في السنوات الست التي انقضت منذ أن غادرت (بابا عمرو)، حاولت ترك هذه الذكريات المؤلمة ولفت الانتباه إلى معاناة الشعب السوري. مستلهمًا من ماري كولفين، الصحفية الأميركية الشجاعة، التي عملت في صحيفة (صنداي تايمز) في المملكة المتحدة.

كنتُ أنا وماري نعيش في المنزل الكبير نفسه في (بابا عمرو)، حيث استأجره مجموعةٌ من الناشطين، وعندما انتقل الصحفيون لاحقًا، أصبحتُ “حلّال المشاكل” الذي يساعد البعض منهم على التنقل في مناطق خطرة، والالتقاء بالمصادر. عندما تمكنت أنا وماري من الهرب، شعرتُ بالارتياح والسعادة، لكوني أصبحت في أمان، لكنها لم تستطع التوقف عن التفكير في الأشخاص الذين لا يزالون محاصرين في الداخل، ثم عادت.

اقترحَ أحد أصدقائي أن نختبئ في خزان مياه صغير على سطح منزله. في النهاية، هربنا، ولم أعد منذ ذلك الوقت.

اتصلتْ مع (سي إن إن)، وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وقنواتٍ تلفزيونية أخرى لتخبر المشاهدين: “الجيش السوري ببساطة يقصف مدينة من المدنيين البردانين الجائعين”. وفي اليوم التالي، قُتلتْ عندما ضربت القذائف المبنى الذي تقيم فيه.

فكرة أن ماري ضحت بحياتها لمساعدة شعبي، أضاءت لي الطريق إلى الأمام.  أصبحت صحفيًا أحاول أن أنقل هذه الحقائق القاسية، حول ما كان يحدث في سورية، وربما لإجبار الزعماء الأجانب على فعل شيء لوقف إراقة الدماء.

في عام 2012، لم تكن سورية معقدة، مثلما يقول العديد من القادة الغربيين عنها الآن. كنت آمل أن تتدخل الأمم المتحدة، والقوى المتحضرة في العالم بسرعةٍ لفرض الحل السياسي، لكن هذا لم يحدث. تابعتُ الحديث عن حال أولئك الذين لم يخرجوا من سورية. كان ذلك يعني أنني لم أكن بعيدًا عن ذكرياتي عن الحرب، وأحيانًا كانت المشاعر التي أثارتها شديدة مثل اليوم الذي عانيتها أول مرة.

في عام 2015، عندما أخبرني أحد سكان بلدة المعضمية، التي حوصرت مدة عامين، عن الجوع القاتل الذي يعانون منه، فهمتُ. تذكرتُ حالة ألا تتناول الطعام مدة يومين، والشعور كما لو كنتُ في حالة سُكرٍ، لم أعد قادرًا على التفكير بشكلٍ صحيح، أو أتخذ أي قرار.

في عام 2012، حي بابا عمرو في حمص الذي دمرّه نظام الأسد. صورة جوزيف عيد/ وكالة الصحافة الفرنسية/ صور جيتي

في عام 2016، عندما رأيت صورًا من حلب لـ (عمران) البالغ من العمر خمس سنوات -الطفل المغطى بالدماء الذي انتشل من بين الأنقاض، والذي جذب انتباه العالم لفترة وجيزة- تذكرت رؤية جيراني وأطفالهم، يركضون في الشوارع حفاة للهرب من القذائف التي تتساقط حولهم. تذكرت رؤية جثث الأطفال المتناثرة في المستشفى الميداني، وتساءلت: “لماذا يستحقون ذلك؟ لماذا يتم قصفهم وهم البعيدون عن الخطوط الأمامية؟

الآن، بينما يستولي نظام الأسد على الغوطة الشرقية شيئًا فشيئًا، وجدت صعوبةً في التواصل مع مصادري على الأرض. هل ما زالوا على قيد الحياة؟ هل اعتقلهم النظام؟

إن قلقي عليهم يعيد ذكريات الأيام التي كانت فيها قوات النظام تتقدم إلى (بابا عمرو)، وهي تستولي على الحي شارعًا شارعًا، وتدفعنا إلى منطقة أصغر. ما زلت قادرًا على الشعور بهذا الهلع، مثل يدٍ تمسك بمعدتي من الداخل. كنا نخشى أن يتم القبض علينا ونعتقل، من دون أن نعرف ماذا سيفعل الجنود بنا. اقترح أحد أصدقائي أن نختبئ في خزان مياهٍ صغير على سطح منزله. في النهاية، هربنا، وأنا لم أعد منذ ذلك الوقت.

عندما اقتحمت قوات الأسد (بابا عمرو)، تعرض المنزل الذي أمضيت فيه طفولتي للنهب، وسرقت دراجتي، وتلفزيوني وحتى الدب لعبتي. عائلتي مشتتة الآن بين حمص ولبنان والمملكة العربية السعودية وألمانيا.

سوف ينتهي الأمر بالغوطة إلى سيطرة الأسد، مثل كل المناطق التي حوصرت سابقًا. سيهرب بعض الناس من منازلهم، كما فعلت، على أمل أن يتمكن أطفالهم من العودة يومًا ما. سيبقى الآخرون ويعانون أكثر، وهو على ما يبدو أنه عقابٌ الشعب السوري، لأنه تجرأ على الانتفاض ومقاومة حكومتهم الوحشية.

اسم المقال الأصلي Syria’s Cycle: Siege, Starve, Surrender, Repeat الكاتب نور الأقرع، Nour Alakraa، 23/3 مكان النشر وتاريخه وول ستريت جورنال، WSJ، رابط المقالة https://www.wsj.com/articles/syrias-cycle-siege-starve-surrender-repeat-1521817360 عدد الكلمات 1187 ترجمة أحمد عيشة


أحمد عيشة


المصدر
جيرون