حسب ستيفن هوكونغ: عندما تكون سورية “وترًا” من أوتار الكون



قد يعتقد معظم دارسي نظريات العلوم المعرفية والوضعية منها، أن الفيزياء علم جاف وقاسٍ، صعب على النفس البشرية، لكونه لا يحتمل مفهوم الجمال، بقدر مفهومي الاكتمال والدقة المفرطة في التدقيق إلى درجة الأسر في الشروط الفيزيائية لواقعتي التجربة العلمية وشروط نجاحها، والمنطق العلمي المحكوم بالمسلمات والفرضيات والقوانين العامة والعامة كليًا. لكن للفيزياء رونقها وجماليتها، حين يغدو الكون أنيقًا أو جميلًا، حين تستحيل المادة إلى أحد عشر وترًا طاقيًا، تربط بين أكوانٍ متوازية تحقق معادلتي الجمال والطبيعة، تتضمن التناسق والتناغم، الحقيقة والرؤية، الامتداد والبصر، حينئذ تصبح الفيزياء ثورة في عالم المعرفة، كونها تتضمن البعد الجمالي كما الفلسفة والحكمة.

ومن موقع علمي ما، كان من الممكن أن أكتب مادة علمية تحمل الصفات الغالبة في الفهم المشاع أعلاه، حول ستيفن هوكينغ، عالم الفيزياء العبقري الراحل عن ست وسبعين عامًا، قبل أيام في 14 آذار/ مارس، تاركًا خلفه ميراثًا فيزيائيًا، أقلّ ما يوصف به بأنه عبقرية واجتهاد في البحث عن معنى للكون سمّاه “الأنيق”، عن معنى وجودنا فيه ووجوده فينا، عن جمالية تناسقه وتناغمه في أبعاد الزمان واستقلاليته عن المكان، عن فلسفة الوجود وعلميته، عن أشكال الحياة وترابطها وامتداد نغمها فينا، عن مصونية الطاقة وتحولاتها، تبعًا لأينشتاين، بحيث تصبح المادة التي تشكل معظم رؤيتنا اليومية على كوكب الأرض مجرد حالة من حالات الطاقة، عن شكل الإله الجميل، وهو يعزف على أوتار الطاقة هذه، فهو لم يكن يلعب بالنرد، ليعبث في تشكيل الكون احتمالات وفرضيات لا تنتهي، هو إلهُ الخير والجمال وقد أتقن صنعته، لا إله القتل والموت والتكفير والهيمنة.. إنه (موجز تاريخ الزمن) الكتاب الأشهر لهوكينغ الذي يفصل فيه تاريخ تشكل الكون، منذ الانفجار الكبير لنجمٍ حتى لحظة وجودنا اليوم، لتحذيراته من ارتفاع السعرات الحرارية للأرض المؤهلة إما للإنفجار نتيجة تراكم فوضاها أو لحرب نووية مدمرة، وفق منطق فيزيائي علمي محفوف بالمخاطر، ويعود بالذهن إلى مقولة الفيزياء على أنها حرب بالعلوم وتسابق التسلح واحتكار ثروات العالم، من قبل القلة واستثمار معظم طاقات البشرية واستنزافها، إنها شيئية العلوم وتجربيتها المحضة التي أحالت البعد الجمالي للإنسان لرقم قابل للتداول، في بورصات العالم السياسي والمالي. يقول هوكينغ، ويردد خلفه كل من يعي حقيقة الطبيعة بوصفها كونًا جميلًا: أوقفوا العقل الاستثماري للكون، وأطلقوا العنان لجمال وجودنا الإنساني، ولتنصفوا الثورة السورية وشعوب منطقتنا وأطفال الغوطة، عندئذ يمكن للكون أن يعود أنيقًا، بلا نفس أمّارة بالسوء، وبلا إلهٍ مجرم قاس غليظ القلب.

كان الطفل يبكي، وكان استرخاص الحياة المادية لأحلامه وآلة القتل التي تعمل بها، ليل نهار، مرة تقتل أمَّه ومرة أخاه وأباه، ومرة تقتلعه من ساحة داره، وترميه ضحية على شطآن التهجير وبلاد المنفى، كما كان (إيلان) يومًا، أو يقف مذهولًا كـ (عمران الحلبي)، وعيناه معلقتان بالنجوم في السماء، رغم امتلاء قلبه بالرعب والخوف من الموت المطبق عليه من كل الجهات أيضًا. وما زال الطفل السوري يردد: “إنها النجوم، يا أمي، تحتفي بي يوم موتي، إنها رحلة في فضاء الكون الأنيق، يا أماه، فلا تخشي نهايتي أبدًا”، هي لحظة تشكيل الوتر الثاني عشر في الكون، الوتر الطاقي الهائل الثاني عشر الواصل بين حلم طفل في السعادة والخلاص من جهنم التي تقتله، إلى نموذج المحاكاة الأجمل الذي طرحته الفيزياء عامة، وهوكنغ الفيزيائي المعاصر خاصة. فالنجوم كالبشر، يا طفلي، تحيا وتموت، وكل موت لنجم في السماء هو ليس سوى مجرد نهاية لمادة، وقد استحالت إلى طاقة كونية، بل ولادة ترتقب أن يكف البشر عن اللعب بمصيرنا بحجري النرد: الموت أو التهجير…

موت الأطفال في سورية، في الغوطة اليوم، بآلة الحرب الحرام، هو تحوّل في مادة البراءة التي حرَّم عليها الاستبداد والديكتاتورية وعالم المصالح القذرة العالمية الحياةَ والفرح اليومي، هو تحوّل إلى نماذج من التواصل الكوني، عبر أوتار الزمن السرمدية، تبحث في أحياز المكان المحدود عن جسور التواصل، عن أوتار الطاقة، عن كمات (Quanta جمع كمية (Quantum الحرية في فضاء الكون، حين يصبح الواقع، في بلد كسورية، محرقة يومية للحياة.. للأحلام.. للروح، فيغدو البحث عن كون آخر ضرورة وجود. أجل هذا ليس قولًا جزافيًا في الفيزياء، ولا إنشادَ حلاجيّ في الثورة والتصوف، هو فهم الكون عندما يصبح أنيقًا، عندما يغدو الكون جميلًا، فانفجار النجوم لن يشكل فقط إحدى حالتين: أما ثقبًا أسود يبلعم كل مجرات الكون في ظلامه الدامس، كما أرادوا وصف الثورة بالإرهاب، أو قزمًا نترونيًا أبيض يتلألأ في السماء بلا فاعلية، كحال المعارضة القزمة، بل هو أصل تشكيل الحياة والكون والطبيعة في جمالية حضورها، إذا تشكلت معها خلايا الحياة الأولى التي سريعًا ما ستنمو وتغدو حياة ووطن. هي أحلام الأطفال وثقافة الحرية والتمسك بثوابت الإنسانية والعيش الكريم في وطن، تلك هي التي طرحتها الثورة السورية، والتي ما تزال تبحث عن شروط اكتمالها في عالم متغول يسعى، بكل آلته العسكرية الحربية ومصالحه السياسية، لبترها وقطعها، حتى لا تشكل نموذج حياة لشعوب الأرض المضطهدة الأخرى.

هكذا تكتنف الفيزياء جماليات الكون، بأبعاده غير المرئية لقصيري النظر، ومستعجلي النزوات والحلول السياسية المباشرة، هي بحث في خلفية المشهد، في سبر أغواره، في الغوص في ماهية وجوده الأول وليس هذا وحسب، بل الارتقاء به إلى مستوى علاقة كونية هي قانون ومفهوم وقصة حياة إنسانية، لا مجرد معادلات رياضية صعبة الفهم، ولا معادلات سوق اقتصادية أو بزار سياسي دنيء قريب المنال، على مستوى جشع البشر حين يصبحون آلات لا تشبع، وباصات خضر تنقل الوجود والحياة خارج حدود المآلوف، عندها فقط، يسقط هوكينغ وأينشتاين وكل فيزيائيي العالم في مستنقع المادية المحض، في ساعة الزمن الرتيبة التي أرادها نيوتن، وأرادتها معه كل نظم الهيمنة والعسكرة والأسلمة، في شبهة تخارج الكون وطبيعة محتواه.

ليس لأني سوري وحسب، ولا لأني فيزيائي أيضًا، بل لأني أدرك معنى الكون ولحظة الكون الكثيفة، معنى التحولات الكبرى وضخامة كلفتها، معنى الروح وقد غدت تبحث عن تحد أكبر، كما تحدى هوكنغ ذات يوم مرض التصلب الجانبي الضموري، الذي لم يقعده لحظة عن ابتكار حلول للتواصل، للغة، للمعرفة، للغوص في جماليات الكون، ليعيش بعدها ما يزيد عن أربعين عامًا، بعد أن توقع له الأطباء ما لا يزيد عن عامين من الحياة. وكذا الثورة: نجمٌ وانفجر في سماء الحريات والمعادلة الوطنية، ولا يمكنه أن يعود لما كان عليه قبل، وما كل هذا الموت سوى لحظات تحوّل كبرى في تاريخ سورية والعالم، وغدًا، كما لعيني أطفال الغوطة المعلقة في نجوم الكون، غدًا وعد قريب.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون