رامبو “عبادة الحرية الطليقة”



يُصنَّف رامبو في عداد الشعراء الذين أطلقت عليهم الحضارة الغربية مصطلح (المنحطين)، بسبب خروجهم على كل الأعراف والتقاليد السائدة، وممن بشّروا بالعودة إلى تجربة الإنسان الفردية بمحاسنها ومساوئها، إضافةً إلى ما ترافق مع ظهورهم من انهيار للقيم الأخلاقية والروحية، والاستهتار الذي جابهوا به كل أعراف المجتمع وتقاليده المتوارثة، لكن ما يشفع لهم ويجمّل صورتهم، في أعين الكثيرين، إخلاصهم لثورتهم تلك، وتكريسهم حياتهم لقضية عصرهم، بل إن بعضهم قد دفع حياته ثمنًا للقضية التي يؤمن بها.

بدايةً، علينا أن نعلم أن رامبو لم يخترع الشعر، لكنه اكتشفه في غير مكانه المعهود الذي تنشأ فيه القصائد وتتربى، فرامبو الذي (فتح عينيه على نافذة بيضاء)، كما يقول عن نفسه في الإشراقات، كان يؤمن كلّ الإيمان بحرّيته، والندم الذي اعتراه يومًا تجاه حياته السابقة، كان سببه أنه أساء استخدامها ربّما، وأنها كانت مجرد ردّة فعلٍ على أمّه المتسلّطة التي لم يرَ يومًا ابتسامة على وجهها، وقد نشأت بينه وبينها حرب صامتة، وكان رامبو قد أطلق على أمه في حينذاك لقب (فم الظل).

تزامن مجيء رامبو إلى الحياة، مع شرخٍ عميقٍ أصاب أسرته الممثّلة بأمٍّ متديّنةٍ تتّصف بالعناد والكبرياء، هي (فيتالي كويف) التي تزوجت منذ سنوات بضابط في المدفعية من ليون، هو الكابتن (رامبو) الذي ينحدر من أسرة بورغونية، اشتهرت بحبّ المغامرة والخمر والتهافت على النساء.

كان التنافر في مزاج الزوجين يضفي على جوّ هذه الأسرة سلسلةً من المشاحنات، انتهت بعودة الأم إلى منزل ذويها في شارلفيل مع أبنائها، وكان حب الأب للمغامرة وخوض الحروب، وانجذابه إلى الحياة المستهترة وصفاته كمحارب، تتناقض مع هدوء زوجته وتديّنها الصارم، وقد جمع رامبو في شخصه كل ما في والديه من تصارع وتنافر، وكأنه صورة عن هذا التناقض بين الغريزة والروح.

إن انفصال الأم عن زوجها أتاح لها التصرّف في تربية أبنائها، فحرصت على غرس التعاليم المسيحية في نفوسهم منذ نعومة أظفارهم، إضافة إلى حبّ التقشّف والرضوخ لسلطانها.

كان خوف رامبو من أمّه يبكيه في معظم الأحيان، وتسبّب ذاك النمط القاسي في الحياة، الذي جاهدت الأم في فرضه على أبنائها، بإيقاظ روح التمرّد والتحدّي في نفس طفلها الهادئ، حيث بدأ محاولاته في الهرب، من جوّ البيت المقيت والخالي من المشاعر الدافئة، إلى الشارع ليلعب مع أقرانه، على الرغم من محاولات أمّه لمنعه.

ويومًا بعد يوم؛ كان شعور رامبو بوطأة السجن الضيّق يتنامى ويخنقه، ومن ثمّ أرسلته أمّه مع أخيه إلى المدرسة ليبدأ بإثارة الضجّة وافتعال الشّغب. لم يكن يكترث بأنظمة المدرسة وتعاليم مدرّسيه، رغم ذكائه واجتيازه للامتحانات المدرسيّة، وكان يرى أنّ من العبث أن يبلي سراويله على مقاعد الدرس.

عندما أحرز رامبو الجائزة الأولى في مسابقة الشعر اللاتيني بقصيدة (موعظة سانشو بانزا لحماره) وكان في عمر المراهقة؛ رفض الجائزة قائلًا: (هذه أشياء تافهة لا قيمة لها)، لكنه في الواقع رفض الجائزة لسبب آخر هو كرهه للإمبراطور وطبقته الثريّة، وحكومته التي ترهق الشعب بطغيانها ومفاسدها. وهذه الأفكار الثورية إنّما استقاها رامبو من أستاذه (إيزامبارد) الذي اتُّهم بإفساد تلميذه بآرائه السياسية المتطرّفة، وضرورة مقاومة حكم الإمبراطور، من خلال قراءاته لأعداد من جريدة (الصباح) الممنوعة، وكان رامبو يجد في هذه القراءات صدًى لما تحس به نفسه من ثورة وتمرد.

في تلك الأثناء، بدأت حرب السبعين وأُعلن النفير العام في فرنسا، وبدأ الحماس يفيض في النفوس والثورة تلتهب في الصدور، كما في صدر رامبو الذي رأى في هذه الحرب نذيرًا بالفوضى التي يحلم بها، لكنه لم يستطع المشاركة فيها، بسبب صغر سنّه، ومع هذا كان يرتقب أنباء الحرب، وعندما جاءت أولى قوائم الضحايا في المعارك التي دارت، تلاشى الحماس في نفس رامبو وتبدّد، لقد كانوا جميعًا من الطبقة الفقيرة الكادحة التي بدأ يحبّها ويتغنى بها في أشعاره.

كتب إلى أستاذه (إيزامبارد) الذي لقّنه الثورة: (إنني أموت وأتفكّك في هذا الجوّ من الهم والفساد والبرودة. ما زلت مصرًا في عناد على عبادة الحرية الطليقة).

وعندما أصبح الألمان على مشارف بلدته، اضطر قائد الحامية في منطقته إلى إحراق الغابات والأشجار، ليسهل على جنوده مهمّة الدفاع عن البلدة. كان رامبو يشهد بحزن كبير مصير هذه المناظر التي خلبت لبه، وتغنى بها في أشعاره، وفي يوم من الأيام، قال لصديقه ديلاهاي: (هناك تدمير ضروري لا يؤسف عليه، أشجار هرمة أخرى يجب أن تقطع، هذا المجتمع نفسه سوف تمر عليه الفؤوس والمناجل، سوف تباد الثروات الطائلة وتسحق كبرياء الأفراد، لن يبقى بعد ذلك إلا الطبيعة الفاتنة).

قصائد كثيرة كتبها رامبو في تلك المرحلة، شتم فيها الإمبراطور نابليون، وصبّ جام غضبه على الغزاة الذين لا يرحمون يقول:

(ذلك أن الإمبراطور، ثملًا من أعوامه العشرين في الاستهتار

كان يقول لنفسه: سوف أخمد شعلة الحرية

كما أطفئ في هدوء شمعة ملتهبة

ولكن الحرية بُعثت وعاشت، والإمبراطور نضو الأسقام).

في الثالث عشر من أيار سنة 1871، يبدأ الناس بالحديث عن ثورة في باريس، وقراءة نصوص رامبو في تلك الفترة بطريقة متأنية تقودنا إلى اكتشاف موقفه من كومونة باريس، ورغم اعتقاد البعض أنه لم يشارك فيها، ولكن رسالة كتبها لأستاذه (إيزامبارد) تقول غير ذلك: (سأصبح عاملًا، هذه هي الفكرة التي تتملّكني، عندما تدفعني الأحقاد الجنونية إلى معركة باريس، حيث يموت الكثير من العمال، بينما أنا أكتب إليك).

كما يعيب رامبو في رسالة أخرى على أستاذه الصمت، حين كان جيش الفرساويين المدعوم من الاحتلال الألماني لفرنسا يسحق الكومونة، وينفذ أحكام الإعدام بالمئات من ثوّارها، يقول رامبو في رسالته تلك: (في العمق، لا ترى في مبدئك سوى الشعر الذاتي، عنادك وإصرارك على الالتحاق بوكر الفئران الجامعي يثبت ذلك، ستنتهي أبدًا كقانعٍ لم يفعل شيئًا؛ لأنه لم يشأ أن يفعل شيئًا، هذا من دون التفكير بأن شعرك الذاتيّ سيبقى تفهًا على شكل فظيع).

لقد دان رامبو عبر أستاذه جبن الأفكار الأخلاقية والإنسانية التي يحملها المثقفون بسخاء، لكنها لا تجد سبيلًا للتطبيق، فيكتفون بالشعارات والخطابات التي لا تفضي إلى أي خلاص. ورغم قصر فترة بقاء رامبو في باريس خلال أيام الكومونة، فإن بعض الذين كتبوا عنه يرجحون مشاركته ضمن المجموعات القتالية لرجال الكومونة، أما أشعاره فيها فهي أشبه بدفاع سياسي حماسي عنها، وشتم بذيء لأعدائها، كما هو واضح في (نشيد الحب الباريسي) التي كانت قصيدة سياسية مباشرة يهجو فيها وبقسوة، أركان الحكم، ممن قمعوا الكومونة وسفكوا دماء المشاركين فيها خلال ما يعرف بـ (الأسبوع الدامي)؛ حيث اجتاح أعداء الكومونة الفرساويين مدينة باريس، وقتلوا نحو عشرين ألف شخص، ووقعوا صلحًا عاجلًا مع ألمانيا. وتعدّ هذه القصيدة وثيقة ترصد مشاهد العنف والعنف المضاد الذي مارسه رجال الكومونة، وقد تركت في نفس رامبو مرارة الخيبة ليردد: (عدم وسديم كل الثورات الممكنة والمحتملة).

لقد كان الجميع على قدر كبير من الوحشية، في قتل الناس والاعتداء عليهم، وخُيّل إلى رامبو أن الثورة الفرنسية بنفسها لم تكن أكثر من قصة تروى، كما يوجه رامبو شتائمه ضد الأنذال البرابرة والسفلسيين المجانين المهرجين أصحاب الكروش، ويهددهم قائلًا: (ستلفظكم باريس لفظ النواة، أيها الشرسون القذرون).

لحظات استثنائية كهذه في حياة الأمة لا مجال فيها للحياد، ولا للقاعدين المتفرجين، كما رأينا في رسائله لأستاذه المثقف (إيزامبارد)، وإن كانت قصائد رامبو وغيره من المثقفين لم تغير شيئًا في وقتها؛ فإنها مواقف الضمير ومبادئه وضرورة الانحياز للحق والعدالة.

يفر رامبو من هذه المعركة متدثرًا بمعطف قديم، منتهزًا فرصة سمر الجنود في الثكنة، وفي داخله شعور يوشك على تدميره؛ ولّد لديه رغبة جارفة، بقضم خشب بنادق المتقاتلين. إن العالم من حوله في انهيار مخيف، ومن العبث تغييره بسراب الكلمات؛ لذا يترك رامبو الشعر ويفرّ من كل شيء، ويبدأ ترحاله عبر العالم على قدميه بعناد متصلب، يعود منه في النهاية بحذاء مثقوب، وقدم مهترئة لا تصلح إلا للبتر.


فوز الفارس


المصدر
جيرون