عبد الرحمن الشهبندر: رجل النهضة والوطنية والتحرر الفكري



ما أحوجنا اليوم، وسورية تعيش مخاضًا عسيرًا، إلى استحضار فكر الشهبندر وروح مبادئه في التسامح ونبذ التطرف، وحلمه في بناء سورية، وفق منظورٍ علماني ليبرالي، بعيدًا من التعصب بكافة أشكاله.

إن ما يُميّز الرجال العظام هو استعدادهم للموت من أجل قضيتهم العادلة، ومثل هؤلاء لا يولدون كل يوم، فالزمن لا يجود بهم إلا نادرًا. من هؤلاء الرجال كان الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي آمن بأفكار عصر النهضة، وحمل لواء الدفاع عنها، ونشر مبادئها وأفكارها التنويرية في العقلانية والليبرالية والعلمانية، ودافع عن قضية تحرر المرأة، وعَدّها أساس ارتقاء الشعوب وتقدمها. في هذه الأجواء نشأ عبد الرحمن الشهبندر، وترعرع في مرحلة تكوّن التيار القومي بنزعته العلمانية الليبرالية.

تبرز أهمية الشهبندر في كونه لم يتقوقع في إطار العمل الفكري فحسب، بل خاض غمار السياسة من بابها العريض، ورفَع راية النضال الوطني، وكان في مقدمة الصفوف. لقد خاض الشهبندر معركة متعددة الجبهات متشعبة الاتجاهات؛ فهو مناضل وطني من الطراز الأول، وقومي عربي لا تلين له قناة، وقف ضد الاستبداد العثماني، وناهض الاستعمار الفرنسي، وتحمّل العذاب والتشريد والنفي أربع مرات. وهو نهضوي معادٍ للجمود والتخلف والتحجر، وداعية مستنير إلى مبادئ عصر النهضة ذات المحتوى البرجوازي الثوري المناهض للجمود الفكري الميتافيزيقي والتخلف الإقطاعي.

انضم الشهبندر إلى حلقة الشيخ طاهر الجزائري التنويرية، في سن مبكرة، وهي الحلقة التي تخرج فيها عدد من قادة الحركة الوطنية العربية، في الربع الأول من القرن العشرين، واشترك عام 1901 بكتابة رسالة بعنوان (الفقه والتصوف)، حمل فيها على الأيديولوجية الصوفية، ولم يُعفهِ من دخول السجن بسببها، سوى صغر سنه. وبعد نيله درجة دكتور في الطب بتقدير امتياز، من الجامعة الأميركية في بيروت، وقد عُيّن فيها بعد تخرجه أستاذًا لمدة عامين، عاد إلى دمشق عام 1908، وبدأ نجمه يلمع في عمله في الطب، وفي السياسة، فكان خطيب الجماهير والصالونات المتعطشة إلى سماع مصطلحات جديدة، كالدستور والحرية والقومية العربية، وفي تلك الفترة، كتب عدة مقالات في الصحيفة الدمشقية (المقتبس)، ونشط في الجمعية الإصلاحية الدمشقية، وكان من الأعضاء البارزين الذين أدّوا دورًا رئيسًا في دعم (المؤتمر العربي الأول) الذي عقد في باريس، في حزيران/ يونيو 1913، وأيدوا قراراته المطالبة بإقامة إدارة لا مركزية في كل ولاية عربية. وفي عام 1915 هرب من بطش الطاغية جمال باشا، والتجأ إلى مصر، وبعد زوال الحكم العثماني، عاد إلى سورية في العام 1919، وكان من مؤسسي “لجنة الدفاع الوطني” التي قادت النضال الوطني الشعبي، في أوائل 1920، وعينه الأمير فيصل وزيرًا للخارجية، في حكومة هاشم الأتاسي التي شُكلت في أوائل أيار/ مايو 1920، وبعد احتلال الفرنسيين دمشق، في تموز/ يوليو من العام نفسه، وصدور حكم الإعدام عليه مع عدد من رفاقه؛ التجأ إلى مصر مرّة ثانية، ولكن ما لبث أن عاد إلى دمشق في تموز/ يوليو 1921، بعد صدور العفو عن مؤيدي الدولة الوطنية العربية.

في مرحلة النضال ضد الاحتلال الاستعماري، كان عبد الرحمن الشهبندر في طليعة أعلام النهضة الذين لم يتوقفوا عند الأفكار القومية ذات المحتوى البرجوازي العلماني، بل خطا خطوة نوعية إلى الأمام في اتجاه الأفكار الاشتراكية، بصيغتها “الاشتراكية الديمقراطية”. لقد حوَّل سجنه في أرواد إلى منتدى فكري وثقافي مع رفاقه، تعقد فيه محاضرات ونقاشات، وترجم كتابًا بعنوان (في السياسة الدولية) لـ دليزل بورنس، الصادر في لندن 1920، وحسب الدكتور عبد الله حنا، وضع الشهبندر مقدمة للكتاب من عشرين صفحة، تَضَمنت أمثلة كثيرة مستمدة من الواقعين العربي والغربي. وكان هذا خط الشهبندر الفكري في كل ما كتب، وهو الجمع بين العَصْرَنَة بمحتواها المناهض لـ “عروش الممولين” و”جشع رؤوس الأموال”، والأصالة بمضمونها التقدمي الثوري الداعي إلى التقدم والانطلاق.

يقول الدكتور الشهبندر: “من الدواعي الجوهرية التي دعتني إلى ترجمة هذا الكتاب، أن صاحبه يقول إن سياسة التعاون بين الأمم، ليست إنسانيةً وتعطفًا، بل سعيًا وراء المنفعة التي يجنيها الجميع من العمل المشترك، وعنده أن تكثير الحرية والعدالة بين الآخرين هو مثل تكثير السلع المادية، يزيد في الرفاهية والسعادة (المنشودة)”. وهذه تعكس خط الشهبندر الأيديولوجي، ووقوفه إلى جانب “الاشتراكية الديمقراطية”، ودعوتها إلى الثورة الاجتماعية بعيدًا من العنف والشدة.

لقد اكتشف الدكتور الشهبندر مبكرًا كُنه العلاقات الدولية والمصالح التي تخضع لها وأهميتها، بينما ما يزال السياسيون عندنا، وهم بصدد البحث عن الخلاص من المحنة السورية الراهنة، محكومين بعلاقات التبعية، أو النظرة الأيديولوجية، قومية كانت أو اشتراكية أو دينية، بالنظر إلى العلاقات مع الدول.

بالرغم من عدم دعوة (حزب الشعب) –الذي أسسه الشهبندر في أيار/ مايو 1925- إلى الثورة المسلحة واقتصاره على “الدعوة إلى الثورة الفكرية السلمية”، والسعي “لتحقيق مبادئه بالطرق القانونية”، فإنه وجد نفسه منخرطًا في الإعداد والتخطيط لثورة مسلحة، من خلال مجموعة من أعضائه، على رأسهم زعيمه الشهبندر، من خلال الاجتماعات السرية التي عقدوها مع زعماء ووجهاء الدروز في (جبل العرب). ومع انطلاقة الثورة من الجبل، في تموز/ يوليو 1925، بقيادة سلطان الأطرش؛ وجد الشهبندر نفسه في خضم الثورة، كقائد سياسي ثوري، واتخذ من السويداء (عاصمة الثورة) مقرًا له، وأخذ يتنقل منها وإليها، شمالًا، باتجاه الغوطة لحشد طاقات الثوار، وتأجيج الثورة في دمشق وغوطتها، وجنوبًا، باتجاه الأردن، لحشد الدعم والمؤازرة للثوار، وإيصال صوتهم للعالم.

وبعد خمود لهيب الثورة، وصدور حكم الإعدام بحقه من السلطات الفرنسية؛ اضطر الشهبندر إلى مغادرة جبل العرب، ووصل إلى القاهرة للمرة الثالثة، في أيار/ مايو 1927، وهناك عاود نشاطه الفكري، من خلال الترجمة والكتابة في الصحف المصرية، فكتب عشرات المقالات التي جمعها في كتاب (القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي)، وطبعه في القاهرة عام 1936، تطرق فيه إلى أهم القضايا المعاصرة آنذاك، (والتي تحتاج إلى أن يفرد لها مقال آخر)، إضافة إلى متابعة نشاط الحركة الوطنية في البلاد، وفي مصر، حيث كانت تقيم جالية شامية (سورية) كبيرة من الوطنيين السوريين المبعدين.

كان الشهبندر خطيبًا بارعًا، يستحوذ على مشاعر وألباب سامعيه، من خلال ما يعرضه من أفكار وقضايا مهمة، تحض على ارتقاء المجتمع ووحدة الصف، من خلال التسامح ونبذ التعصب، حيث قال: “لما أتى الطاغية جمال باشا؛ هل كان يفرق بين بطرس ومحمد؟ هل قال هذا مسلم وهذا نصراني!! لقد ذهبنا جميعًا في سبيل العروبة إلى المشانق.. فلا المآذن نفعتنا ولا النواقيس دفعت الشر عنّا، فمن أراد أن يحمي وطنه، فليدع الاختلافات جانبًا، ولتجتمع كلمتكم على حب الوطن، فالوطن من الله، وفي سبيل الله”. وهاجم في مكان آخر “التقليد”، باعتباره أحد أهم أسباب التخلف والتأخر، طارحًا سؤال عصر النهضة الشهير: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون؟

لقد بقي الشهبندر حاملًا راية النضال الوطني، على مدى أربعين عامًا، حتى سقط شهيد أفكاره الليبرالية، برصاصات الحقد المأجورة، في تموز/ يوليو 1940.


سمير البكفاني


المصدر
جيرون