الشِعر الكُردي في سورية: حساسية جديدة ولغة فارقة



ثمةَ تجارب شِعرية في سورية، ظلت خارج دائرة الأضواء والاحتفاء، وتحديدًا تلك التجارب التي آثرت الكتابة بلغاتٍ ما تزال غير رسمية بل ممنوعة أيضًا، من بينها الشِعر المكتوب باللغة الأم (الكردية)، إذ لم تكن هناك منابر رسمية أو غير رسمية لاحتضانها والتعريف بها، عكس تجارب الشعراء الكُرد الذين كتبوا باللغة الرسمية (العربية).

إذا نظرنا إلى هذه الأصوات؛ وجدنا أنها لا تقل أهميةً عن التجارب الشِعرية الأخرى، سواء تجارب الشعراء السوريين العرب، أو الشعراء الكرد ممن قرروا الكتابة بالعربية، وذلك على الرغم من شح المصادر والمراجع، وقلة عدد المحفزين والقراء والمتابعين لها، باستثناء شعراء قلائل كتبوا قصائدهم بالكردية في وقتٍ مُبكرٍ، ولا سيما الشاعر المؤسس جكر خوين (1903- 1984م)، الذي يُعدّ الأب الروحي للغة الكردية، وهو يُعادلُ في المدونة الشِعرية الكردية -من حيثُ التجديد والسلاسة في اللغة والوزن- الشاعرَ نزار قباني في الشِعرية العربية، حيثُ كان أول من نشر دواوينه بالأحرف اللاتينية، كما غنى قصائدَه -على غرار قباني نفسه- جلُّ الفنانين الكرد، من مثل الراحل محمد شيخو، وشِفان برور، وجوان حاجو، وخوشناف تيللو، وخليل غمكين، وآخرون كثر. ويُعدّ الأب الروحي لا للغة الكردية فحسب بل للشعر الكردي أيضًا، إلى جانب شاعرين آخرين، هما: ملايي جزيري (1570- 1640)، وأحمدي خاني (1650-1708م)، اللذين سبقاه بعدة قرون.

ولعل ما يميز التجربة الشِعرية الجديدة للشعراء الكُرد السوريين، في العقود الأخيرة، أنها نهلت من مصادر عدة، ولا سيما العربية والغربية إلى جانب الكردية، وإن كانت بشكلٍ أقل، أي أنهم كانوا يقرؤون بلغة ويكتبون بأخرى، ثمة اختلاف كلي وجوهري في ما بينهما، أما من حيثُ التمايز الحقيقي لهذه التجارب، فنجد أنها اشتغلت على خصوصية عمارتها الإبداعية، بحيثُ تصل إلى مصاف التجارب الشِعرية في اللغات الأخرى، وقد عملت على توظيف تقنيات جديدة، لم تكن موجودة لدى التجارب التي سبقتها، ويمكننا أن نسميها تجارب الشعراء الكرد الرواد (الكلاسيكيين) من مثل يوسف برازي، وسيداي تيريز، وعمر لعلي، ومن ثم ديا جوان، وصالح حيدو، وفرهاد عجمو، وكوني رش.

فيما عملت التجارب الشِعرية اللاحقة، على تحرر النص من براثن الوزن وسطوته، على غرار ما فعلته التجارب الشِعرية في اللغات المجاورة، وإن أتت متأخرةً عنها زمنيًا، ما يمكننا أن نطلق عليها بالحداثة الثانية والمتممة، وإن جاءت بشكلٍ فردي، وخارج الإطار المؤسساتي من تجمعاتٍ ثقافية أو صحف أو دوريات. وتكمن أهمية هذه التجارب في كونها تنفرد بخصوصيةٍ ثريةٍ، في لغتها وخطابها الشعريين من جهة، ولاعتبارها امتدادًا حقيقيًا لتجارب باقي الشعراء في سورية، من مثل: محمد الماغوط، دعد حداد، سنية صالح، سليم بركات. ومن ثم بندر عبد الحميد، رياض الصالح الحسين، منذر مصري، عائشة أرناؤوط، نوري الجراح، مرام المصري. وصولًا إلى هالا محمد، أكرم قطريب، علي جازو، جولان حاجي، هنادي زرقة، ندى منزلجي، محمد رشو، تمام التلاوي وإيمان إبراهيم.. من جهةٍ ثانية.

هذه التجارب، بنبراتها الخافتة، تركت ندبةً جليةً في الشعرية المعاصرة، لما فيها من دفءٍ في العلاقةِ والمحاورةِ مع الأشياء والموجودات من حولها، وتدوير الألم كأثر إلى نقيضٍ لهُ/ اللذةُ، في أُلفةٍ غير معهودة على خريطة هذا الشعر، طالما كان الإبداع صوت الأعماق الإنسانية، وصدى معاناة وجودية تشترك فيها الكائنات جميعًا، سواء داخل رقعةٍ جغرافيةٍ معينةٍ أو حتى خارجها.

تفترق التجارب الجديدة، في أسلوبها وأدواتها الشعرية، اختلافًا جوهريًا، بقدر ما تتشابه في موضوعاتها وزاوية الاهتمام والارتكاز، “كونها جميعًا شربت من النبعِ ذاته”؛ فنجد قصيدة أفين شكاكي تنشغل بالذاتي والحميمي، وتنحو في اتجاه الومضة في سبك جملٍ شِعريةٍ مُكثفةٍ، وتتوغل قصيدة حسن حليمة في المنطقة الأكثر وعورةً في النَفسِ، حيث الحزن على أشده وكذلك الحب، فيما تلتقط قصيدة سيروان قجو شِعريتها من اللغة اليومية المعيشة، وبدلًا من العمل على الصورة الشعرية، ينشغل جوان قادو بالقصيدة ككتلةً متماسكة، فتأتي شبيهة باللوحة التشكيلية أو الفيلم السينمائي في تكونها وصيرورتها، أما قصيدة خالد عمر فتُسكِر القارئ بنبيذِ شِعريتها الصرف، عدا عن نزعتها نحو السخرية في بعض الأحيان.

وباعتبار المكان -حسب إليوت- الذي نبدأ منه، تتغنى قصيدة وجيهة عبد الرحمن بالوطن المفقود وقمرهِ الغائب، بينما يطغى السرد على أجواء قصائد دلشا يوسف، دون أن تفقدها الشعرية المرجوة، أما قصيدة شيرين كيلو فنجد فيها تداخل الأجناس الأدبية الأخرى، وتكاد ملامح الشعرية تختفي، وتشتغل ديلان شوقي أيضًا على “القصيدة الومضة”، في سبك جملٍ شعرية مكثفة. وعلى الرغم من غنائيتها العالية تكاد تؤسس لهايكو شعري خاص بها، بينما الحميمية في التعبير عن مكنونات الذات أبرز ملامح قصيدة جانا سيدا.


عماد الدين موسى


المصدر
جيرون