مكاسب التحالف الروسي-التركي في سورية



يبدو أن الصراع التاريخي بين روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية، بدءًا من القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين، وامتداده في العهد السوفييتي مع تركيا العلمانية، تحول إلى تحالف بين الدولتين في سورية منذ العام 2016. وإذا كانت الطموحات الإمبراطورية القديمة قد فرقت البلدين، فإن تقاطع المصالح الجديدة يجمع بينهما الآن، مثلما يجمع بينهما أيضًا استلهام رئيسيهما لأمجاد الماضي لتحقيق طموحات معاصرة.

ومنذ بداية القرن الحالي، شهدت العلاقات بين روسيا وتركيا تطورًا ملحوظًا، على أساس المصالح الاقتصادية، ثم لم تلبث أن توترت بعد التدخل الروسي في سورية أواخر شهر أيلول/ سبتمبر 2015، ووصلت إلى منعطفٍ حرج بعد إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية، في ريف اللاذقية الشمالي أواخر العام 2015، بزعم دخولها المجال الجوي التركي. استثمرت روسيا هذه الحادثة لاتهام تركيا بالتعامل مع الإرهابيين، وقصفت قوافل صهاريج الوقود التي كانت تتجه إلى تركيا من مناطق سيطرة (داعش) شرق سورية، كما حظرت على الطيران الحربي التركي استعمال الأجواء السورية.

وفي الوقت الذي تأزمت العلاقات الروسية-التركية، لم تكن تركيا قادرة على الاعتماد على علاقتها مع الولايات المتحدة التي كانت مشغولة بالحرب ضد (داعش) بالاعتماد على (قوات سورية الديمقراطية)، التي يشكل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، عدو تركيا الأول، عمودها الفقري.

ثم جاء الانقلاب التركي في تموز/ يوليو 2016، ليحدد لحظة التقارب بين الدولتين، من خلال إدراك حاجة كل منهما إلى الأخرى، في مواجهة السياسة الأميركية في سورية، حيث سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى مهاتفة الرئيس رجب طيب أردوغان بُعيد الانقلاب، وأمل بـ “عودة الاستقرار”، في حين تأخر الرئيس الأميركي باراك أوباما، حتى اليوم التالي ليغرد على (تويتر)، ويدعو “كل الأطراف في تركيا إلى دعم الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا”. وكانت تركيا قد اتهمت عبد الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، بالوقوف وراء الانقلاب، واحتمال أن يكون مدعومًا من قبل الإدارة الأميركية.

في أجواء التقارب هذه، لم يؤثر اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف في أنقرة، في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016 على العلاقات بين الدولتين، وسرعان ما اعتُبر الحدث محاولة للتأثير على علاقتهما الجديدة. كما لم يأخذ الروس مزاعم الأتراك المتعلقة بمسؤولية جماعة غولن عن عملية الاغتيال على محمل الجد، وفهموا منها رغبة الحليف الجديد في عدم تعكير الأجواء، فاستأنف الطرفان التعاون الاقتصادي والسياحي، وأُضيف إليه التعاون في المجال العسكري، من خلال رغبة تركيا في شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية (إس-400).

وهكذا، بعد أن كانت تركيا في عام 2015 منكفئة، ومرفوضة من قبل الأميركان والروس في سورية، تحولت منذ 2017 إلى التقدم السريع بعد تنسيقها مع الروس في أستانا، لتنال مثلث جرابلس- إعزاز- الباب، مقابل حلب الشرقية، ثم عفرين في بداية العام الحالي، مقابل الغوطة الشرقية، فيما تنتظر إدلب مقايضات أخرى أو تقاسمًا للنفوذ، ولعل الأمر الأكثر احتمالًا في هذا الشأن هو انسحاب الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا إلى الجهة الغربية من الطريق الدولية بين حماة وحلب.

إن ما تعطيه روسيا لتركيا في الشمال السوري، مقابل مساعدتها في الحرب على الفصائل المسلحة المعارضة أو تحييدها أو غض النظر، يعدّ ضربًا من المقايضة التي قد تكون ذات نتائج كارثية على الجغرافيا السورية في المستقبل، كضرب من تكريس الأمر الواقع، بحيث تستحوذ تركيا على أكبر مساحة من الأراضي السورية المحاذية لها في الشمال، أو أن تصبح الآمرة الناهية في هذه المناطق. ولن يحدّ من طموحاتها غير عقبة الوجود الأميركي شرق نهر الفرات، فهي لن تكسب من الأميركان أكثر من التفاهم على إدارة منبج، وطرد عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي منها إلى شرق النهر. ويبدو أن روسيا لا تجد مفرًا من تقديم المزيد من الأرض السورية لتركيا، مقابل استمرار التحالف بين البلدين في مواجهة النفوذ الأميركي المتزايد يومًا بعد يوم، في شرق سورية وجنوبها. لذا، يمكن القول إن التحالف مع روسيا فتح الحدود السورية على مصراعيها أمام الأتراك.

ففي معركة عفرين، التي تخلى فيها الروس عن حزب الاتحاد الديمقراطي والقوى المتفرعة عنه، بعد رفضهم دخول قوات النظام إلى عفرين، حقق الأتراك نصرًا كاد أن يفقدهم صوابهم، وأثار تعطشهم للمزيد، فأطلق الرئيس رجب طيب أردوغان تصريحاته التي وعد فيها بإعادة الكرّة شرق الفرات. قد تكون سورية القادمة قد ربحت من انحسار المشروع الانفصالي لبعض الجهات الكردية في الشمال، لكن استبداله بالاحتلال التركي لن يكون أقل سوءًا على الإطلاق.

كما نسق الروس والأتراك أيضًا في رفضهما وقف إطلاق النار، وفقًا لما جاء في القرار الأممي 2401، فقد أعلنت الدولتان أنه لا يعنيهما لكونهما تحاربان الإرهاب، في إشارة إلى البند الذي أدخلته روسيا على القرار المذكور، واستمرتا في حربهما: روسيا في الغوطة الشرقية وتركيا في عفرين. وليس مصادفةً أن يدخل الأتراك ويرفعوا علمهم في مركز مدينة عفرين، في الوقت الذي كان يجري فيه التفاوض على ترحيل مسلحي حرستا وجنوب الغوطة الشرقية إلى الشمال، والذين قد تزج بهم تركيا في معارك جديدة. معركتها المنتظرة لاستعادة مدينة تل رفعت، وربما أيضًا في سنجار شمال العراق!

هكذا، مع استمرار رسم مساحات النفوذ الدولية في سورية وتبلورها، ومنها المتعلقة بالمقايضات الروسية-التركية، فإن ما يكسبه الآخرون من سورية تقابله خسارة صافية للسوريين، الذين لم يبرهنوا، حتى الآن، على تمسكهم بالبديل الوطني الديمقراطي للاستبداد، كونه المخرج الوحيد من مستنقع الحاضر إلى رحابة المستقبل، فضلًا عن ضرورة قيامهم بمراجعة شاملة لأحداث السنوات السبع الماضية، من أجل استخلاص العبر واستنباط مخرجات جديدة للمأساة الوطنية السورية.


منير شحود


المصدر
جيرون